وأما أحكامه فعشرة :
الحكم الأول : ، وفي الكتاب : من قام بدين على غائب - ولعله كثير المداينة - لغير من حضر بيع عرضه لمن حضر ، وليس كالميت في الاستيناء لاجتماع من يطرأ من غرمائه لبقاء ذمة هذا دون الميت ؛ قاله جمع ماله وبيعه مالك ، وقال غيره : يستأني كالميت إن كان معروفا بالدين ; لتوقع الضرر على الغائب من الغرماء فيهما . قال التونسي : قريب الغيبة لا يفلس ، وبعيدها مجهول الملاء ، ومعروفها لا يفلس عند ابن القاسم ، ولا يحل المؤجل من دينه ، ويأخذ من حل دينه ما حضر ، ويحاص فيه إن لم يف بالمؤجل ، ولا يكون واجد سلعته أحق بها ; لأن الأصل عدم التفليس . وقال أشهب : يفلس كالحاضر الغائب ماله . قال أصبغ : ويكتب تفليسه حيث هو ، قال : وفيه نظر ; لأن أشهب إنما فلسه لإمكان تلف المال ، فإذا وصل إليه فكيف يحل عليه بقية المؤجل وقد ذهبت العلة ؟ ! قال ابن يونس : تباع داره وخاتمه ، وسرجه وسلاحه ، ولا تباع ثياب جسده دون ثوبي جمعته إن كانت لهما قيمة ، وإلا فلا .
ويباع سريره وسيفه ، ورمحه ومصحفه ، دون كتب العلم في دين الميت ، والوارث وغيره فيها سواء ممن هو لها أهل ؛ قاله ، وخالفه سحنون أبو محمد وغيره ; لأنها أعيان مقصودة بالأعواض كسائر المتمولات ، ولم تتمحض للقرب كالمساجد والربط ، قال صاحب المقدمات : ولم يختلف في جواز بخلاف كتب العلم . قال بيع المصحف ابن يونس : وليس لغرماء المفلس أن يواجروا أم ولده ، ويواجروا مدبره ، ويبيعوا كتابة مكاتبه ; لقبول ذلك للمعارضة وهي في حوزه ، ولا يجبر على اعتصار ما وهب لولده ، ولا أخذ شفعته ، ولا قبول هبته ; لقوله - عليه السلام - في حديث معاذ : ( ) . خذوا ما وجدتم ليس لكم إلا ذلك
[ ص: 164 ] ; لأن الدين مقدم على العتق وبر الوالدين ، بخلاف لو وهب له لانخرام مقصود الواهب ، بخلاف البائع ، إلا أن يجهل الواهب أنه أبوه فيباع لعدم قصده العتق . وإذا اشترى أباه بيع في الدين
في النوادر : الميراث كالشراء يباع أيضا ، ولو دبر ولد أمته الصغير ثم استدان وفلس لا تباع الأمة للتفرقة ، لكن تخارج ويأخذ الغرماء خرجها إلى مبلغ حد التفرقة ، فتباع ويباع منها بقدر الدين ، إلا أن يموت السيد قبل ذلك فتباع الأمة إن وفت الدين ، ويعتق ثلث المدبر ، وإن وفى بعضها عتق من باقيها ، وفي بقية مبلغ الثلث من ذلك إن لم يدع غير ذلك ، وإن كانت هي المدبرة فالجواب سواء .
قال : سحنون ، وإن لم يترك غير ذلك ، بل يتربص الطالب ، فإن باعوا وصار مالا طلب وقضي له به ، وكذلك مركب بساحلنا فيه خمر ، وإن قالت امرأة المفلس : هذه الجارية لي وصدقها ، وقال الغرماء : بل له . قال لا يجبر ورثة الذمي على بيع خمره وخنازيره : إن كانت في حيازة المرأة والزوج يقوم بها لم تصدق بعد التفليس ، وعلى المرأة البينة للتهمة في الحوز لها عن الغرماء ، ووافقنا ( ش ) في بيع داره وخادمه ، قال : وإن كان محتاجا إليه ، وخالف سحنون . ابن حنبل
قال مالك : ويستأني بربعه الشهر والشهرين لتوقع الزيادة في الثمن مع الأمن عليه ، والعروض والحيوان مدة يسيرة ، والحيوان أسرع لقرب تغيره ، ولا يبيع السلطان إلا بالخيار ثلاثة أيام لتوقع الزيادة . قال اللخمي : إلا أن يكون الربع أعظمها ، وتكون المبادرة إليه متعينة خشية الرجوع عنه فلا يؤخر ، والعادة أن يبيع القاضي بيع خيار وإن لم يشترط ، إلا أن يعلم المشتري تلك العادة فله القيام في تنجيز البيع أوالرد إن كره البقاء على الخيار .
قال ابن يونس : قال مالك : ويترك له ما يعيش به هو وأهله الأيام ، وقال نحو الشهر ، وإن لم يوجد غيره ترك ; لأن الحياة مقدمة على مال الغير ; لأنه يجب على الغير إزالة ضرره بماله ، فأولى التأخير بما في الذمة . وقال ( ش ) : إن كان له كسب [ ص: 165 ] فنفقته في كسبه وإلا ترك له ما يحتاجه إلى انفكاك الحجر عنه . وقال : ينفق على المفلس ومن تلزمه نفقته بالمعروف إلى حين القسمة ، فإن كان يكتسب أنفق على نفسه ، وإن لم يكن له كسب أنفق عليه مدة الحجر وإن طالت ، كالميت يجهز ، وضرورة الحي أعظم . ابن حنبل
لنا : الحي مجبول على طلب الكسب والتسبب غالبا ، وحق الغريم متعين فيقدم ، والميت يتعين تجهيزه في ماله الحاضر ، وأيس من تحصيله لمال آخر ، وأهله عندنا زوجته وولده الصغار فيعطى نفقتهم ونفقته ، وكسوته وكسوتهم ; لأن الغرماء عاملوه على ذلك . وعنه لا تترك له كسوة زوجته لبعد ضرورتها عنه ، فلها طلب طلاق نفسها ، والصبر مدة بخلاف نفقته ونفقتها . وفي الموازية : إن بعث نفقة لأهله فقام غرماؤه فلهم أخذها ; لأن حق الغريم متعين في المال ، والزوجة لها أحد الأمرين : إما النفقة أو الطلاق ، فإن قال الرسول : أوصلتها لأهله صدق مع يمينه ، ولهم أخذها من عياله إن قاموا بحدثان ذلك ، فإن تراخوا مدة تنفق في مثلها فلا شيء لهم لذهاب عين المال ، فإن قاموا بحدثان ذلك فقال أهله : قضينا دينا في نفقة تقدمت لم يصدقوا ، وعليهم البينة ، إلا أن يأتوا على ذلك بلطخ أو برهان .
قال اللخمي : يجبر العامل على إن جاز بيعه ، وكذلك إن كان هو المفلس ، وفيه فضل ، وإن لم يجز البيع لم يجبر . قال : وأرى إن رضي الغرماء أن يضمنوا للعامل ما يربح في مثلها عند أوان البيع أن يمكنوا الآن من البيع ، ويدفعوا ذلك إليه وقت البيع ، فإن لم يربح في مثلها ذلك الوقت لم يكن له شيء ، وقال في كتاب بيع قراض المفلس محمد : إذا خرج العامل إلى بلد آخر بيع لغرماء المالك ، ولا يباع لغرمائه حتى يحضر المالك ; لأن غرماء المالك كالمالك ، وهو لو لقيه هناك له الانتزاع فكذلك غريمه ، وغريم العامل كالعامل ، والعامل ليس له الترك هناك ، بل عليه إعادته إلى موضع قبضه . فلو علم أنه لم يسافر إلا رجاء الربح لم ينتزعه رب المال ولا الغرماء إلا بعد الرجوع ، وإن وجد قد اشترى بثمن ما باع لم يأخذوه منه حتى يقدم ربه ، وهو كالذي لم يحل بيعه ، وإن كان أخدم عنده لم يبع مرجعه ، كانت الخدمة حياة المخدم أو [ ص: 166 ] سنين معلومة .
وإن أفلس المخدم كانت الخدمة كالعرض ، إن كانت معلومة العشر سنين ونحوها ، وإن كانت حياة المخدم أو المخدم بيع منها ما قرب السنة والسنتين ، وإن دارا ونقد كراءها بيعت تلك المنافع ، ويباع دينه المؤجل عينا أو عرضا أو طعاما من قرض ، ويؤخر إن كان من بيع حتى يحل أجله لامتناع بيع طعام السلم قبل قبضه ، ويؤخر بيع ما لم يبد صلاحه حتى يبدو صلاحه ، وتباع خدمة المعتق إلى أجل وإن طالت العشر سنين ونحوها ، ولا يباع مال مدبره ولا مال أم ولده ، ومعتقه إلى أجل ; لأنه ملك غيره .
وقال : لا ابن كنانة ولا كسوة ; لأن الأصل أن الغرماء وغيرهم سواء في مواساته ، وأرى أن يعتبر ما يترك له ثلث قدر المال الذي عليه وعياله ، والسعر من الرخص والغلاء ، فإن ترك له نفقة الشهر في غلاء أو كثرة العيال أضر بالغرماء ، أو مع كثرة العيال ورخاء السعر لم يضر بهم ، وأما مع قلة ما في يديه فالخمسة الأيام والجمعة حسن . ويصح أن لا يترك له شيء بأن يكون ذا صنعة تكفيه ، وقيل : يترك للصانع النفقة اليسيرة خوف المرض ، وليس ببين لندرة المرض ; ولأن الغالب أن المفلس أخفى شيئا وراءه . يترك للمفلس نفقة
وفي النوادر : إذا كان يفضل عن إجارة نفسه شيء أخذ ؛ قاله ابن القاسم . قال : والصناع إذ أفلسوا وليس لهم مال أخذ فضل أجر عملهم . قال سحنون اللخمي : وإذا أفلس العبد المأذون انتزع ما في يده كالحر ، وإن كان يؤدي لسيده خراجا في حال تجارته من ربحه مضى له ما أخذ ، أو من رأس ماله رد . وإن كان صانعا يشتري الشيء ويصنعه فالغريم أحق بما في يديه ، ولا مقال على السيد فيما أخذ من الخراج مما قابل صنعته ، وإن كان عنده فضل أخذ منه .
وإن علم أنه كان على خسارة انتزع من السيد ما أخذ ، وإن أبقى السيد في يده شيئا من خراجه لم يأخذه الغريم ، وإن كان في يده مال : وهب له ، أو تصدق به عليه ، أو أوصي له به ، قضي منه الدين ، إلا أن يشترط المعطي أن يتسع فيه العبد ، فلا يقضى منه .
[ ص: 167 ] فرع
قال ابن يونس في المدونة : إذا ، ليس لغرمائها فيه قيام ; ليلا يبقى زوجها بغير جهاز ، إلا أن يكون الشيء الخفيف كالدينار . فلست امرأة ثم تزوجت وأخذت مهرها
فرع
في الكتاب : يجبر على انتزاع مال أم ولده ، وله انتزاعه إلا أن يمرض ، ولا دين عليه ; لأنه حينئذ ينتزع للورثة لا لنفسه .
وإن لا يأخذ مال مدبره للغرماء ، وإن مات بيع بماله ، وإن أحاط الدين به . قال فلس المريض التونسي : إن مرض وعليه دين وله مدبر يرده الدين إذا مات لا يعجل بأخذ ماله لدين سيده حتى يموت ، فلعله يعتق بعضه ويباع بعضه في الدين . وقد يطول المرض ويفيد السيد مالا .
فرع
قال : الحاكم عندنا يتولى بيع مال . وقاله ( ش ) ، الطرطوشي : ويستحب حضوره ; لأنه أعلم بسلعه وميل الناس لمعاملته أكثر وقال ( ح ) : وابن حنبل ، وإنما يأمر بالبيع ، ويحبسه حتى يبيع . لا يبيع الحاكم
لنا : أنه - عليه السلام - معاذ ، وقول باع مال عمر - رضي الله عنه - في حديث الأسيفع : إنا بائعو ماله غدا على رأس المهاجرين والأنصار ، فكان ذلك إجماعا وقياسا على الميت ، وعلى بدل أحد النقدين بالآخر ، فإنه ساعد عليه . ولهم الفرق بأن الميت سقطت أهليته بخلاف الحي ، والنقدان في حكم الشيء الواحد بخلاف غيرهما .
احتجوا بقوله تعالى : " إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم " . وبقوله - عليه [ ص: 168 ] السلام - : ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه ) . وهذا لم تطب به نفسه ، وبالقياس على غير المفلس ، ولأن تصرفه لنفسه أتم من الغير ، ولأنه لو جاز له بيع ماله ، لجاز له بيع منافعه لجريانها مجرى الأموال .
والجواب عن الأول : القلب ، فإن فقد أكل ماله بالباطل ، ثم نقول : هذا يقتضي منع البيع إذا باع بتضييق الحاكم ، ثم نقيس على ما أجمعنا على تخصيص هذه النصوص به من بدل النقدين أحدهما بالآخر ، ونفقات الزوجات والميت . المفلس إذا امتنع من البيع
وعن الثاني : الفرق بأن تصرف المفلس يضر بالغرماء بالإزواء في الأثمان بخلاف غير المفلس . وعن الثالث : أن الحاكم قد يملك الإنسان ما لا يملك هو : كفرقة العنة . وعن الرابع : الفرق بأنه يجب عليه بذل ماله للدين ، ولا يجب عليه أن يواجر نفسه ، فقام الحاكم مقامه .