[ تفصيل ] وهذا هو الشرط الأول ، وبه خرج المنقطع ، والمرسل بقسميه ، والمعضل الآتي تعريفها في محالها ، والمعلق الصادر ممن لم يشترط الصحة شروط الصحيح ; لأن تعاليقه المجزومة المستجمعة للشروط فيمن بعد المعلق عنه لها حكم الاتصال ، وإن لم نقف عليها من طريق المعلق عنه فهو لقصورنا وتقصيرنا . كالبخاري
واتصاله ( بنقل عدل ) وهو من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة ، على ما سيأتي مع البسط في محله ، وهذا هو ثاني الشروط ، وبه خرج من في سنده من عرف ضعفه أو جهلت عينه أو حاله ، حسبما يجيء في بيانها ( ضابط ) أي : حازم ، ( الفؤاد ) بضم الفاء ثم واو مهموزة ثم مهملة أي : القلب ، فلا يكون مغفلا غير يقظ ولا متقن ، لئلا يروي من كتابه الذي تطرق إليه الخلل ، وهو لا يشعر ، أو من حفظه المختل فيخطئ ; إذ : ضبط صدر ، وضبط كتاب . الضبط ضبطان
فالأول : هو الذي يثبت ما سمعه ; بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء .
والثاني : هو صونه له عن تطرق الخلل إليه من حين سمع فيه إلى أن يؤدي ، وإن منع بعضهم الرواية من الكتاب .
[ ص: 29 ] وهذا - أعني الضبط - هو ثالث الشروط على ما ذهب إليه الجمهور ; حيث فرقوا بين الصدوق والثقة والضابط ، وجعلوا لكل صفة منها مرتبة دون التي بعدها ، وعليه مشى المصنف ، وقال : إنه احترز به عما في سنده راو مغفل ، كثير الخطأ في روايته ، وإن عرف بالصدق والعدالة .
ويتأيد بتفصيل شروط العدالة عن شروط الضبط في معرفة من تقبل روايته ، ولذلك تعقب المصنف الخطابي في اقتصاره على العدالة ، وانتصر شيخنا للخطابي ; حيث كاد أن يجعل الضبط من أوصافها ، لكن قال في موضع آخر : إن تفسير الثقة بمن فيه وصف زائد على العدالة وهو الضبط إنما هو اصطلاح لبعضهم .
وعلى كل حال فاشتراطه في الصحيح لا بد منه ، والمراد التام كما فهم من الإطلاق المحمول على الكامل ، وحينئذ فلا يدخل الحسن لذاته المشترط فيه مسمى الضبط خاصة هنا ، لكن يخرج إذا اعتضد وصار صحيحا لغيره . وكأنه اكتفى بذكره بعد ، وإن تضمن كون الحد غير جامع .
ثم إنه لا بد أن يكون ناقلا له ( عن مثله ) يعني : وهكذا إلى منتهاه ; سواء انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو إلى الصحابي ، أو إلى من دونه حتى يشمل الموقوف ونحوه .
[ ص: 30 ] ولكن قد يدعى أن الإتيان بـ " عن مثله " تصريح بما هو مجرد توضيح ، وأنه قد فهم مما قبله ، ولذلك حذفه شيخنا في نخبته لشدة اختصارها ( من غير ما ) أي : من غير ( شذوذ ) وغير ( علة قادحة ) ، وهذان : الرابع والخامس من الشروط ، وسيأتي تعريفهما ، وهما سلبيان بمعنى اشتراط نفيهما ، ولا يخدش في ذلك عدم ذكر الخطابي لهما ; إذ لم يخالف أحد فيه .
بل هو أيضا مقتضى توجيه ابن دقيق العيد ، قوله : ( وفيهما نظر على مقتضى نظر الفقهاء ; حيث قال : فإن كثيرا من العلل التي يعلل بها المحدثون لا تجري على أصول الفقهاء ) .
إذ ظاهره أن الخلاف إنما هو فيما يسمى علة ، فالكثير منه يختلفون فيه ، والبعض المحتمل لأن يكون الأكثر أو غيره يوافق الفقيه المحدث على التعليل به ، ولذلك احترز بقوله : ( كثيرا ) .
ومن المسائل المختلف فيها مما ، فإن الفقيه والأصولي يقولان : المثبت مقدم على النافي فيقبل . إذا أثبت الراوي عن شيخه شيئا فنفاه من هو أحفظ أو أكثر عددا ، أو أكثر ملازمة منه
والمحدثون يسمونه شاذا ; لأنهم فسروا الشذوذ المشترط نفيه هنا بمخالفة الراوي في روايته من هو أرجح منه ، عند تعسر الجمع بين الروايتين ، ووافقهم على التفسير المذكور ، بل صرح بأن العدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد ، أي : لأن تطرق السهو إليه أقرب من تطرقه إلى العدد الكثير ، وحينئذ فرد قول الجماعة بقول الواحد بعيد . الشافعي
ومنها مثلا عن صحابي ، ويرويه آخر مثله ; سواء عن ذلك التابعي بعينه ، لكن عن صحابي آخر ، فإن الفقهاء أو أكثر [ ص: 31 ] المحدثين يجوزون أن يكون التابعي سمعه منهما معا ، إن لم يمنع منه مانع ، وقامت قرينة له ، كما سيأتي في ثاني قسمي المقلوب ، وفي الصحيحين الكثير من هذا . الحديث الذي يرويه العدل الضابط عن تابعي
وبعض المحدثين يعلون بهذا ، متمسكين بأن الاضطراب دليل على عدم الضبط في الجملة ، والكل متفقون على التعليل بما إذا كان أحد المتردد فيهما ضعيفا ، بل توسع بعضهم فرد بمجرد العلة ولو لم تكن قادحة .
وأما من لم يتوقف من المحدثين والفقهاء في تسمية ما يجمع الشروط الثلاثة صحيحا ، ثم إن ظهر شذوذ أو علة رده فشاذ ، وهو استرواح حيث يحكم على الحديث بالصحة قبل الإمعان في الفحص ، عن تتبع طرقه التي يعلم بها الشذوذ والعلة نفيا وإثباتا ، فضلا عن أحاديث الباب كله التي ربما احتيج إليها في ذلك .
وربما تطرق إلى التصحيح متمسكا بذلك من لا يحسن ، فالأحسن سد هذا الباب ، وإن أشعر تعليل ظهور الحكم بصحة المتن من إطلاق الإمام المعتمد صحة الإسناد بجواز الحكم قبل التفتيش ، حيث قال : ( لأن عدم العلة والقادح هو الأصل الظاهر ) ، فتصريحه بالاشتراط يدفعه ، مع أن قصر الحكم على الإسناد وإن كان أخف لا يسلم من انتقاد . ابن الصلاح
وكذا لا ينبغي الحكم بالانقطاع ، ولا بجهالة الراوي المبهم بمجرد الوقوف على طريق كذلك [ بل لا بد من الإمعان في التفتيش ; لئلا يكون متصلا ومعينا في طريق آخر ] ، فيعطل بحكمه الاستدلال به ، كما سيجيء في المرسل والمنقطع والمعضل .
على أن شيخنا مال إلى النزاع في ترك تسمية الشاذ صحيحا ، وقال : غاية ما [ ص: 32 ] فيه رجحان رواية على أخرى ، والمرجوحية لا تنافي الصحة ، وأكثر ما فيه أن يكون هناك صحيح وأصح ، فيعمل بالراجح ولا يعمل بالمرجوح ; لأجل معارضته له ، لا لكونه لم تصح طريقه .
ولا يلزم من ذلك الحكم عليه بالضعف ، وإنما غايته أن يتوقف عن العمل به ، ويتأيد بمن يقول : ( صحيح شاذ ) كما سيأتي في المعل . وهذا كما في الناسخ والمنسوخ سواء ، قال : ومن تأمل الصحيحين ، وجد فيهما أمثلة من ذلك . انتهى .
[ ويمكن توجيه تنظير ابن دقيق العيد الذي لم يفصح به بهذا ] .
وهو أيضا شبيه بالاختلاف في العام قبل وجود المخصص ، وفي الأمر قبل وجود الصارف له عن الوجوب .
وبالجملة فالشذوذ سبب للترك إما صحة أو عملا ، بخلاف العلة القادحة ; كالإرسال الخفي ( فتوذي ) بوجودها الصحة الظاهرة ، ويمتنع معها الحكم والعمل معا ( و ) إذا تم هذا فـ ( بالصحيح ) في قول أهل هذا الشأن : هذا حديث صحيح .
( وبالضعيف ) في قولهم : هذا حديث ضعيف ( قصدوا ) الصحة والضعف ( في ظاهر ) للحكم ، بمعنى أنه اتصل سنده مع سائر الأوصاف المذكورة ، أو فقد شرطا من شروط القبول لجواز الخطأ والنسيان على الثقة ، والضبط والإتقان وكذا الصدق على غيره ، كما ذهب إليه جمهور العلماء من المحدثين والفقهاء والأصوليين ، ومنهم ، مع التعبد بالعمل به ، متى ظنناه صدقا ، [ ص: 33 ] وتجنبه في ضده . الشافعي
( لا ) أنهم قصدوا ( القطع ) بصحته أو ضعفه ; إذ القطع إنما يستفاد من التواتر ، أو القرائن المحتف بها الخبر ، ولو كان آحادا كما سيأتي تحقيقه عند حكم الصحيحين .
وأما من ذهب وغيره إلى أن خبر الواحد يوجب العلم الظاهر والعمل جميعا - فهو محمول على إرادة غلبة الظن أو التوسع ، لا سيما من قدم منهم الضعيف على القياس كحسين الكرابيسي كأحمد ، وإلا فالعلم عند المحققين لا يتفاوت .
فالجار في الصحيح يتعلق بـ " قصدوا " ، و " في ظاهر " بمحذوف ، و " لا القطع " معطوف على محل " في ظاهر " أو على المحذوف ، والتقدير : قصدوا الصحة ظاهرا لا قطعا . والحاصل أن الصحة والضعف مرجعهما إلى وجود الشرائط وعدمها بالنسبة إلي غلبة الظن ، لا بالنسبة إلى الواقع في الخارج .