وأما السنة فقد ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وآله وسلم حكم برجم اليهودي واليهودية عندما تحاكم إليه اليهود في أمرهما إذ أتيا الفاحشة ، والحديث صريح في أنه حكم في ذلك بنص التوراة ، قال العلماء : ويجب اتباعه فيما حكم به مهما كان سبب الحكم ; لأنه لا يحكم إلا بالحق ، واستدلوا بذلك ؛ لأن الإسلام ليس شرطا في الإحصان خلافا لمن اشترطه ، وروي [ ص: 22 ] عن ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : ابن عباس لا يغوص عليه إلا غواص ، وهو قوله تعالى : الرجم في كتاب الله يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ( 5 : 15 ) ، فهو يريد أن هذا مما بينه لهم وحكم به فصار مشروعا لنا ، وتتمة الآية ويعفو عن كثير ، أي : مما تخفون من الكتاب ، ثم ذكر الله تعالى بعد ذلك القرآن ، ووجوب اتباعه ، وروى عنه أبو داود أنه قال : إن آية الرجم نزلت في سورة النور بعد آية الجلد ، ثم رفعت وبقي الحكم بها ، وفي الصحيحين وغيرهما عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة ، أو كان حمل أو اعتراف .
وأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ برجم ماعز الأسلمي والغامدية لاعترافهما بالزنا ، ولكنه أرجأ المرأة حتى وضعت ، وأرضعت ، وفطمت ولدها ، رواه مسلم ، وأبو داود من حديث بريدة ، ورويا وكذا غيرهما من أصحاب السنن عن رجم امرأة من عمران بن حصين جهينة ، وفي الموطأ والصحيحين والسنن من حديث : جلد الغلام العسيف ( الأجير ) الذي زنى بامرأة مستأجرة ، ورجم المرأة ، وفي الصحيحين أبي هريرة قال : سألت أبي إسحاق الشيباني : هل رجم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ قال : نعم ، قلت : قبل سورة النور أم بعدها ؟ قال : لا أدري ابن أبي أوفى ، وظاهر هذا السؤال والجواب أن السائل يريد أن يعلم هل كان الجلد ناسخا للرجم الذي ربما كان عملا بحكم التوراة ، أم كان الرجم مخصصا لعموم الجلد بجعله خاصا بغير المحصنين والمحصنات بالزواج ، وروى عن عن البخاري أن الشعبي عليا ـ رضي الله عنه ـ حين رجم المرأة ضربها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة وقال : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهو يدل على أن عليا لا يقول بأن الرجم نزل في كتاب الله ولا أنه يدل عليه ، ولا أذكر أنني رأيت حديثا صريحا في رجم الأيم الثيب ، وسأتتبع جميع الروايات عند تفسير آية النور وأحرر المسألة من كل وجه إن شاء الله تعالى في العمر ، وورد أن ، قيل : حدا ، وقيل : تعزيرا مائة جلدة أو أقل ، أقوال ووجوه ، وأما العبيد فيعلم حكمهم من الآية بدلالة النص ، فعليهم ما على الإماء بشرطه ، وقيل : كالأحرار ، ثم قال : الأمة غير المحصنة تجلد إذا زنت لكن يجلدها سيدها ذلك لمن خشي العنت منكم ، العنت : المشقة والجهد والفساد ، قيل : أصله انكسار العظم بعد الجبر ، أي : ذلك الذي أبيح لكم من جائز لمن خشي على نفسه الضرر ، والفساد من التزام العفة ومقاومة داعية الفطرة ، ذلك بأن مقاومة هذه الداعية التي هي أقوى وأرسخ شئون الحياة قد تفضي إلى أمراض عصبية وغير عصبية إذا طال العهد على مقاومتها ، وذهب الجمهور إلى أن المراد بالعنت لازمه وهو الإثم بارتكاب الزنا ، قال بعضهم : إن العنت يطلق على الإثم لغة ، ونقول : إن الإثم في أصل اللغة ليس بمعنى المعصية الشرعية ، بل هو الضرر فيقرب من معنى إلا أن العنت أشد ، ويدل على ذلك ما روي عن نكاح الإماء عند العجز عن الحرائر [ ص: 23 ] رضي الله عنه أن ابن عباس نافع بن الأزرق سأله عن العنت ، فقال : الإثم ، قال نافع : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم ، أما سمعت قول الشاعر :
رأيتك تبتغي عنتي وتسعى مع الساعي علي بغير ذحل
وأن تصبروا وتتقوا خير لكم أي : وصبركم بحبس أنفسكم عن نكاح الإماء مع العفة خير لكم من نكاحهن ، وإن كان جائزا لكم ، لدفع الضرر عنكم ، لما فيه من العلل والمعايب كالذل والمهانة والابتذال ، وما يترتب على ذلك من مفاسد الأعمال ، وسريان ذلك منهن إلى أولادهن بالوراثة ، وكونهن عرضة للانتقال من مالك إلى مالك ، فقد يسهل على الرجل أن يكون زوجا لفتاة فلان الفاضل المهذب ، ولا يسهل عليه أن يكون زوجا لأمة فلان اللئيم أو الفاسق الزنيم ، ومن كانت للفاضل اليوم قد تكون للفاسق غدا ، وروي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : إذا نكح العبد الحرة فقد أعتق نصفه ، وإذا نكح الحر الأمة فقد أرق نصفه ، وهذه الحكمة مبنية على ما بيناه غير مرة من معنى الزوجية وهي أنها حقيقة واحدة مركبة من ذكر وأنثى كل منهما نصفها ; ولذلك يطلق على كل منهما لفظ " زوج " لاتحاده بالآخر وإن كان فردا في ذاته ، وروي عن أنه قال : ما تزحف ناكح الأمة عن الزنا إلا قليلا ، وقال الشاعر : ابن عباسإذا لم تكن في منزل المرء حرة تدبره ضاعت مصالح داره
والله غفور رحيم يغفر لمن لم يصبر عن نكاح الأمة ، رحيم به ، كذا فسروه ، وقالوا : إنه نزله منزلة الذنب للتنفير عنه ، والأمر في مثل هذه الأسماء الإلهية التي تختم بها الآيات أوسع من أن تخص بما تتصل به ، ففي الآية ذكر أمور كثيرة يكون الإنسان فيها عرضة للهفوات واللمم كعدم الطول ، واحتقار الإماء المؤمنات والطعن فيهن عند الحديث في نكاحهن ، ثم عدم الصبر على معاشرتهن بالمعروف وسوء الظن بهن ، فلما كان الإنسان عرضة لأمثال هذه الأمور ، ومنها ما يشق اتقاؤه ، ذكرنا الله تعالى بمغفرته ورحمته بعد بيان أحكام شريعته ، ليذكرنا بأنه لا يؤاخذنا بما لا نستطيعه منها .