هذا بيان مستأنف لما كادوا به أباهم بعد ائتمارهم بيوسف ليرسله معهم وهو الحق ، وفي سفر التكوين أن أباهم هو الذي أرسله إليهم بعد ذهابهم .
قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف ) يعنون : أي شيء عرض لك من الشبهة في أمانتنا فجعلك لا تأمنا على ( يوسف ؟ وكانوا قد شعروا منه بهذا بعد ما كان من رؤيا يوسف ، ويظهر أنهم قد علموا بها ، كما أنه شعر منهم بالتنكر له على حد قول الشاعر :
كاد المريب بأن يقول خذوني
.( وإنا له لناصحون ) أي والحال إنا لنخصه بالنصح الخالص من شائبة [ ص: 218 ] التفريط أو التقصير ، أكدوا هذه الدعوى بالجملة الاسمية المصدرة بـ ( ( إن ) ) وتقديم ( له ) على خبرها واقترانه باللام ، ولولا شعورهم بارتيابه فيهم لما احتاجوا إلى كل هذا التأكيد ، ( أرسله معنا غدا يرتع ويلعب ) أي أرسله معنا غداة غد إذ نخرج كعادتنا إلى مراعينا في الصحراء يرتع معنا ويلعب .
وقرئ في المتواتر أيضا ( ( نرتع ونلعب ) ) . بنون الجماعة ، وهي مفهومة من قراءة الياء ؛ فإن المراد من خروجه معهم مشاركته إياهم في رياضتهم وأنسهم وسرورهم بحرية الأكل واللعب والرتوع ، وهو أكل ما يطيب لهم من الفاكهة والبقول ، وأصله رتع الماشية حيث تشاء . قال في الكشاف : ( نرتع ) نتسع في أكل الفواكه وغيرها ، وأصل الرتعة الخصب والسعة ، ا هـ . الزمخشري
وأما لعب أهل البادية فأكثره السباق والصراع والرمي بالعصي والسهام إن وجدت .
وسيأتي أن لعبهم كان الاستباق بالعدو على الأرجل ( وإنا له لحافظون ) ما دام معنا نقيه من كل سوء وأذى ، أكدوا هذا الوعد كسابقه مبالغة في الكيد .
وفي التفسير المأثور عن - رضي الله عنه - : ( ( ابن عباس أرسله معنا غدا نرتع ونلعب ) ) قال : نسعى وننشط ونلهو ، وعن ابن زيد : ( يرتعي بالياء وكسر العين قال : يرعى غنمه وينظر ويعقل ويعرف ما يعرف الرجل ) وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن هارون قال : كان أبو عمرو يقرأ ( نرتع ونلعب ) بالنون . فقلت لأبي عمرو : كيف يقولون : ( نرتع ونلعب ) وهم أنبياء ؟ قال : لم يكونوا يومئذ أنبياء . قد توسع بعض المفسرين في هذه المسألة وعدوها مشكلة لظنهم أن اللعب غير جائز وقوعه من الأنبياء . والتحقيق أن من اللعب ما هو نافع فهو مباح أو مستحب ، ومنه ملاعبة الرجل لزوجه وملاعبتها له كما ورد في الحديث الصحيح ، وأن إخوة يوسف لم يكونوا أنبياء يومئذ ولا بعده كما حققناه في محله ، وأن من التنطع والغفلة استشكال اللعب المباح في نفسه ممن شهد الله عليهم بالكيد لأخيهم والائتمار بقتله وتعمد إيذائه ، وفجيعة أبيهم به وكذبهم عليه وغير ذلك من كبائر المعاصي !
قال إني ليحزنني أن تذهبوا به ) أي قال أبوهم جوابا لهم : إني ليحزنني ذهابكم به بمجرد وقوعه ، والحزن ألم النفس من فقد محبوب أو وقوع مكروه ، وفعله من باب قفل في لغة ( قريش ، وتعديه تميم بالهمزة واللام في قوله : ليحزنني للابتداء ( وأخاف أن يأكله الذئب ) والخوف ألم النفس مما يتوقع من مكروه قبل أن يقع ( وأنتم عنه غافلون ) أي في حال غفلة منكم عنه واشتغال عن مراقبته وحفظه بلعبكم ، قيل : لو لم يذكر خوفه هذا لهم لما خطر ببالهم أن يقع ، ولعله قاله من باب الاحتياط أو الاعتذار بالظواهر ، وإن كان يعلم حسن عاقبته في الباطن ، على أن علمه هذا كان مجملا منهما ومقيدا بالأقدار المجهولة كما أشرنا إليه من قبل .
[ ص: 219 ] ( قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة ) أي والله لئن اختطفه الذئب من بيننا وأكله والحال أننا جماعة شديدة القوى تعصب بنا الأمور ، وتكفى ببأسنا الخطوب ( إنا إذا لخاسرون ) وخائبون في اعتصابنا ، أو لهالكون لا يصح أن نعد من الأحياء الذين يعتد بهم ويركن إليهم ، وهذه الجملة جواب للقسم أغنى عن جواب الشرط .
أجابوه عما يخافه بما يرجون أن يطمئنه ، وأما حزنه فلا جواب عنه لأنه في حد ذاته لا بد منه وليس في استطاعتهم منعه ؛ إذ هو لازم لفراقه له ولو فراقا قليلا فيه منفعة ليوسف في صحته ، بترويض جسمه في ضحى الشمس وهبوب الرياح وحركة الأعضاء في زمن قصير ، يعود بعده فيزول حزنه ويكون سروره مضاعفا لو صدقوا .