( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم )
لما ذكر في الآية السابقة أن للمؤلين من نسائهم حالين : الفيئة بالرجوع إلى معاشرتهن ، وعزم الطلاق وإمضاؤه ، ناسب أن يذكر بعده شيئا من أحكام الطلاق معطوفا على ما قبله متمما له فقال : ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) إلخ .
قال الأستاذ الإمام - قدس الله روحه - المراد بالمطلقات الأزواج اللواتي تحقق فيهن [ ص: 294 ] معنى الزوجية وعهدن أن يكن مطلقات ، وأن يتزوجن بعد الطلاق ، وهن الحرائر ذوات الحيض بقرينة السياق ، فلا يأتي هنا ما يقوله الأصوليون في كلمة : المطلقات هل اللام فيها للاستغراق أم للجنس ؟ وهل هو عام مخصوص أم لا ؟ لأن وصل الآية بما قبلها يمنع كل ذلك، كما يمنعه التربص بالزواج ، ولولا ذلك لكان البحث في موضعه ، وأما حكم من لسن كذلك في الطلاق كاليائسة والتي لم تبلغ سن الحيض فمذكور في سورة الطلاق .
وهن كأنهن لا يدخلن في مفهوم المطلقات ، فإن اليائسة من شأنها ألا تطلق لأن من أمضى زمن الزوجية مع امرأة حتى يئست من المحيض كان من مقتضى الطبع والفطرة ومن أدب الشرع والدين أن يحفظ عهدها ويرعى ودها بإبقائها على عصمة الزوجية ، وإن كان بعض السفهاء لا يحترمون تلك العشرة الطويلة ، ولا يراعون ذلك الميثاق الغليظ فيقدموا على طلاق اليائسة ، ثم إن اليائسة إذا طلقت فلا تكاد تتزوج ، وما خرج عن مقتضى الشرع واستقامة الطبع فلا يعتد به ، والتي لم تبلغ سن المحيض قلما تكون زوجا ، ومن عقد على مثلها كانت رغبته فيها عظيمة فيندر أن يتحول فيطلق ، وحاصل ما تقدم أن ما يتبادر في هذا المقام من لفظ المطلقات يفيد أنهن الزوجات المعهودات المستعدات للحمل والنسل الذي هو المقصد من الزوجية فينتظر أن يرغب الناس في التزوج بهن .
ومعنى التربص مدة ثلاثة قروء هو ألا تتزوج المطلقة حتى يمر عليها ثلاثة قروء ، وهي جمع قرء - بضم القاف وفتحها - ويطلق في اللغة على حيض المرأة وعلى طهرها منه ، والأصل فيه الانتقال من الطهر إلى الحيض كما نقل عن في قول له ، ولذلك لا يقال للطاهر التي لم تر الدم ذات قرء أو قروء ، ولا للحائض التي استمر لها الدم ، فلما كان القرء وسطا بين الدم والطهر أو عبارة عن الصلة بين هاتين الحالتين عبر به قوم من الفقهاء عن أحدهما وقوم عن الآخر ، ولكل منهم شواهد في اللغة ، أطال المفسرون في إيرادها والترجيح بينها ، فالمالكية والشافعية وآل البيت على أن القرء هو الطهر ، والحنفية والحنابلة في أصح الروايتين على أن القرء هو الحيض ، وأدلة الأولين أقوى . الشافعي
قال الأستاذ الإمام : والخطب في الخلاف سهل; لأن المقصود من هذا التربص العلم ببراءة الرحم من الزوج السابق وهو يحصل بثلاث حيض كما يحصل بثلاثة أطهار ، ومن النادر أن يستمر الحيض إلى آخر الحمل ، فكل من القولين موافق لحكمة الشرع في المسألة . وأورد الحكم بلفظ الخبر دون الأمر وغيره من ضروب الإنشاء - كقوله : كتب على المطلقات كذا - لتأكيده والاهتمام به كأنه يقول : إن هذا التربص واقع كذلك لا محالة ، كما يقول الشيخ في هذا النوع من الإسناد الخبري في مقام الأمر ، فعندما يقال المطلقات يلتفت ذهن السامع ويكون متهيئا لسماع ما يقال عنهن ، فإذا قيل : [ ص: 295 ] ( عبد القاهر الجرجاني يتربصن بأنفسهن ) إلخ - وفيه الإسناد والحكم - يتقرر عنده أنه مأمور به أمرا مؤكدا كأنه قال : إننا أمرناهن بذلك وفرضناه عليهن فامتثلن الأمر وجرين عليه بالاستمرار حتى صار شأنا من شئونهن اللازمة لهن لا ينصرفن عنه ، بل لا يخطر في البال مخالفتهن له وليس في الأمر بصيغته ما يفيد هذا التأكيد والاهتمام; لأن المأمور بالشيء قد يمتثل وقد يخالف ، وهذا الضرب من التعبير معهود في التنزيل في مقام التأكيد والاهتمام يقع في الكتاب مواقعه لا يعدوها ، ولا يخفى ذلك على من طعم البلاغة وذاقها .
وفي التعبير بقوله : ( يتربصن بأنفسهن ) من الإبداع في الإشارة ، والنزاهة في العبارة ، ما عهد في كل القرآن ، ولم يبلغ مراعاة مثله إنسان ، فالكلام في المطلقات وهن معرضات للزواج ، وخلو من الأزواج ، والأنسب فيه ترك التصريح بما يتشوقن إليه ، والاكتفاء بالكناية عما يرغبن فيه ، على إقرارهن عليه وعدم إيئاسهن منه ، مع اجتناب إخجالهن ، وتوقي تنفيرهن أو التنفير منهن ، وقد جمع هذه المعاني قوله تعالى : ( يتربصن بأنفسهن ) على ما فيه من الإيجاز ، الذي هو من مواقع الإعجاز ، فأفاد أنه يجب عليهن أن يملكن رغبتهن ، ويكففن جماح أنفسهن ، إلى تمام المدة الممدودة ، والعدة المعدودة ، ولكن بطريق الرمز والتلويح لا بطريق الإبانة والتصريح ، فإن التربص في حقيقته وظاهر معناه التريث والانتظار ، وهو يتعلق بشيء يتريث عنه ، وينتظر زوال المدة المضروبة دونه ، ولولا كلمة ( بأنفسهن ) لما أفادت الجملة تلك المعاني الدقيقة ، والكنايات الرشيقة ، وما كان ليخطر على بال إنسان يريد إفادة حكم العدة أن يزيد هذه الكلمة على قوله : " يتربصن ثلاثة قروء " ولو لم تزد لكان الحكم عاريا عن تأديب النفس والحكم على شعورها ووجدانها ، ولعل الإرشاد إلى ما تنطوي عليه نفوس النساء من تلك النزعة في ضمن الإخبار عنهن بأن من شأنهن امتلاكها والتربص بها اختيارا ، هو أشد فعلا في أنفسهن وأقوى إلزاما لهن أن يكن كذلك طائعات مختارات ، كما أن فيه إكراما لهن ولطفا بهن ، إذ لم يؤمرن أمرا صريحا وهذا من الدقائق التي نحمد الله تعالى أن هدانا إلى فهمها ، فأنى لأمثالنا من البشر أن يأتوا بمثلها ؟
قال الأستاذ الإمام بعد بيان هذه النكتة التي شرحناها : وزعم بعض الناس أن معنى التربص بالأنفس هنا ضبطها ومنعها أن تقع في غمرة الشهوة المحرمة ، وعللوا ذلك بأن النساء أشد شهوة من الرجال ، ومنهم من قدر هذه الشدة والزيادة بأضعاف كثيرة حدها وعدها عدا ، وهذا من نبذ الأقوال وطرحها بغير بينة ولا علم ، فإن الرجال كانوا وما زالوا هم الذين يطلبون النساء ويرغبون فيهن ، ثم يظلمونهن حتى بالتحكم في طبائعهن والحكم على شعورهن ، ويأخذ بعضهم ذلك من بعض بالتسليم والتقليد . وأقول : إن من دقق النظر في [ ص: 296 ] أقوال الرجال في النساء في كل عصر ولا سيما أقوال كتاب الصحف في زماننا ، ووزناها بموازينها ، رأى فيها من الأغلاط والأوهام ما يبطله النظر والاختبار ، وأظهر أوهامهم ما يكتبونه في حب المرأة وفي الموازنة بينها وبين الرجل فيما تقدم وفي غيره ، وأن المقلدين للمخطئ في ذلك أضعاف المقلدين للمصيب .