( 1 ) ذكر أن المرجح الأول لرأي أبي بكر : استقرار الأمر عليه ، فإذا كان يريد به ترجيحه ، والعمل به في تلك الحال فهو غلط ظاهر ، فإن العمل به هو الذي أنكره القرآن ، فكيف يكون دليلا على أنه الأصوب أو أنه صواب ؟ وأما عدم نقضه بأمر الله بقتل الأسرى بعد مفاداتهم فقد بينا ما فيه من الحكم وجعله قاعدة في التشريع .
[ ص: 86 ] وإن أراد به استقرار الأمر عليه آخرا فيجاب عنه بأن هذا قد كان سببه تغير الحال ، ، فمن ـ صلى الله عليه وسلم ـ على والتخيير بين المن والفداء بعد إثخان الأعداء في القتال أهل مكة بإطلاقهم من أسر الرق ، إذا كان قد أثخن في الأرض ، وأعتق المسلمون أسرى بني المصطلق بعد قسمتهم فآمنوا كلهم ، وتقدم عن ما يصرح به ، بأن ما هنا نسخ بآية سورة ابن عباس محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ما في تسمية ذلك نسخا من بحث تقدم .
( 2 ) المرجح الثاني : موافقة الكتاب الذي سبق بإحلال ذلك لهم إلخ ، وهو مبني على قول من قال : إن المراد به ذلك ، فيكون خطأ عند من فسره بغيره مما تقدم بل هو خطأ مطلقا ، فإنه استدلال على استحلال الشيء قبل ورود الشرع بإحلاله وهو ظاهر البطلان .
( 3 ) المرجح الثالث : موافقته الرحمة التي سبقت الغضب وهو خطأ أيضا ، فإن سبق رحمة الله تعالى لغضبه لا يقتضي أن ترجح الرحمة على الغضب من عباده ولا منه وهو أرحم الراحمين في كل شيء ، وإلا لما كانت المسألة مسألة ، بل كانت تكون مسألة رحمة بلا غضب ، فالذي أفادته الآيتان الأوليان أن رحمة الكفار بأسر مقاتليهم ثم المن عليهم أو مفاداتهم في حال ضعف المؤمنين ليست من شأن أنبياء الله تعالى وسنتهم ، ولا مما ينبغي أن يقع منهم ، ولا من أتباعهم الصادقين قبل الإثخان في الأرض ، وقد وصف الله أتباع رسوله بقوله : سبق للرحمة على الغضب أشداء على الكفار رحماء بينهم ( 48 : 29 ) وقال لرسوله : يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ( 9 : 73 ) ومن المعقول المجرب أن وضع الرحمة في غير موضعها ، وغير وقتها المناسب لها ضار كما قال : أبو الطيب المتنبي
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى مضر كوضع السيف في موضع الندى
ومن المثلات والعبر في هذا أن المسلمين أباحوا في حال عزتهم وسلطانهم لأهل الملل الأخرى حرية واسعة في دينهم ومعاملاتهم في بلاد الإسلام ، عادت على المسلمين ودولهم بأشد المضار والمصائب في طور ضعفهم ، كامتيازات الكنائس ، ورؤساء الأديان ، التي جعلت كل طائفة منهم ذات حكومة مستقلة في داخل الحكومة الإسلامية ، ومن ذلك ما يسمونه في هذا العصر بالامتيازات الأجنبية التي كانت فضلا وإحسانا من ملوك المسلمين ، فصارت امتيازات عليهم مذلة لهم مفضلة للأجنبي عليهم في عقر دارهم ، حتى إن الصعلوك من أولئك الأجانب صار أعز فيها من أكابر أمرائهم وعلمائهم .( 4 ) المرجح الرابع : ـ رضي الله عنهما ـ بنبيين من المرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم - وهذا التشبيه لا يدل على الترجيح بحال من الأحوال ، فإن ما ذكره ـ صلى الله عليه وسلم ـ من وجهي الشبه لكل منهما [ ص: 87 ] إنما كان يدل عليه لو كان عندنا دليل على أن ما قاله تشبيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكل من صاحبيه ووزيريه إبراهيم وعيسى في أقوامهما في محله ، وأن ما قاله نوح في قومه وموسى في فرعون وقومه في غير محله ، ولكن ثبت أن الله تعالى استجاب لنوح دعاءه على قومه : رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ( 71 : 26 ) ولموسى دعاءه على فرعون وقومه : ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم ( 10 : 88 ) ورأينا المفسرين يعدون من المشكل على قواعد العقائد الإسلامية قول إبراهيم : فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ( 14 : 36 ) وتأوله بعضهم بأنه قاله قبل إعلام الله تعالى له بأنه لا يغفر أن يشرك به وقالوا : إنه كاستغفاره لأبيه الذي قال الله فيه : وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ( 9 : 114 ) وقال بعضهم في تأويله : إنه في العصاة لا الكفار ، وغير ذلك . ومثله استشكالهم لقول عيسى في الذين اتخذوه وأمه إلهين من دون الله : إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ( 5 : 118 ) وقد أطالوا في تفسيره الكلام ، ولا سيما وصفه تعالى بالعزيز الحكيم في مقام احتمال المغفرة دون الغفور الرحيم ، وقد بينا في تفسيرنا أن قوله هذا عليه السلام تفويض للأمر إلى الله عز وجل لا طلب ودعاء بالمغفرة لهم ، ولا يتسع هذا المقام لبسط الكلام في الآيتين .
وأما استنباط الترجيح مما تقرر عند علمائنا من إبراهيم أفضل الرسل بعد خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليهم ويليهما كون موسى فعيسى فنوح فلا وجه له في هذا المقام ، فإن كان إبراهيم في الطرف الأول أفضل ممن في الطرف الثاني ، فإن موسى في الثاني أفضل من عيسى في الأول ، ففي كل من النبيين اللذين شبه بهما كل من الصاحبين من هو أفضل من أحد الآخرين ، ولكن المقام ليس مقام المفاضلة فإنه لا خلاف بين المسلمين في على الصديق رضي الله تعالى عنهما الفاروق . تفضيل
( 5و6 ) المرجحان الخامس والسادس : ما حصل من الخير العظيم بإسلام أكثر أولئك الأسرى ، وخروج من خرج من أصلابهم من المسلمين ، وهذان إنما يدلان على أن الخير في الذي وقع كان حكمة من حكم الله في قوعه كما بيناه ، ولكنه ليس دليلا على أن حكمه الشرعي الذي نزلت الآيتان فيه هو بل نصهما صريح في ضده . مفاداة الأسرى وترجيحها على قتلهم
( 7 ) المرجح السابع ، حصول القوة للمسلمين بالفداء وفيه نظر ، إذ ما يدرينا أن قتلهم كان يكون مضعفا للمشركين ، وصادا لهم عن الجراءة على قتال المؤمنين في أحد وفي الخندق مثلا ، كما هو المعقول الذي يقتضيه ما دلت عليه الآيتان من وجوب جعل المفاداة بعد الإثخان في الأرض لا قبله ، وعلى تقدير التسليم يقال في هذا المرحج ما قلناه فيما قبله .
[ ص: 88 ] ( 8 ) المرجح الثامن : موافقة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ وهو بمعنى المرجح الأول ويقال فيه ما قلناه فيه . ( 9 ) المرجح التاسع : قوله : ولموافقة الله له آخرا حيث استقر الأمر على رأيه اهـ .
ويا ليت شيخنا وقدوتنا في أدبه ودينه وعلمه لم يقل هذا فإنه على بطلانه غير لائق ، وكان ينبغي أن يقتصر على ما قاله بعده في معناه وهو : ولكمال نظر فإنه رأى ما يستقر عليه حكم الله آخرا ، وأما كونه باطلا فقد علم مما قبله ؛ لأنه من التكرار الذي يقع مثله في كلامه كثيرا . الصديق
وجملة القول : أن الآيتين الأوليين صريحتان في أن رأي عمر ـ رضي الله عنه ـ هو الصواب ، ووردت الآثار بأنه مما وافق عليه رأيه كلام الله تعالى ، وقد ذكر ابن القيم هذا في إعلام الموقعين وأقره ، وأن جعله مرجوحا يستلزم كون حكم الآيتين مرجوحا وهو محال ، ومن اللوازم التي لم تخطر بالبال ، بل غفلوا عنه ، هذا وجل من لا يغفل .
وقد علمت أن حكم الله تعالى لم يتغير أولا ولا آخرا - وخلاصته : أن اتخاذ الأسرى ومفاداتهم مقيد بالإثخان كما تقرر بالبيان التام ، وأنه لما كان أخذ الفداء من أسرى بدر قبل الإثخان أنكر تعالى على المؤمنين ، بما تضمن عتاب خاتم النبيين ، صلوات الله عليه وآله وصحبه أجمعين ، وما من الله به علينا من الحكم التسع أقوى ، من هذه المرجحات التسعة والحمد لله رب العالمين .