( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم ) هذه الآية مبينة لبعض أحوال البشر التي نعبر عنها في عرف هذا العصر بالسنن الاجتماعية ، وقد عطفت على ما قبلها لأنها في سياق تقرير التوحيد وإبطال خرافات الشرك على ما سنبينه . والخلائف جمع خليفة وهو من يخلف أحدا كان قبله في مكان أو عمل أو ملك - وفي الخطاب وجهان : ( أحدهما ) أنه للبشر جملة ، والمعنى : أنه تعالى جعلهم خلفاءه في الأرض بالتبع لأبيهم آدم على ما تقدم في سورة البقرة ، أو جعل سننه فيهم أن تذهب أمة وتخلفها أخرى . ( ثانيهما ) أن الخطاب للأمة المحمدية ، وأنه جعلهم خلفاء لمن سبقهم من الأمم في الملك واستعمار الأرض وهذا هو الراجح المختار ، ويؤيده قوله تعالى بعد ذكر إهلاك القرون الخالية : ( ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ) ( 10 : 14 ) وفي معناها آيات أخرى ، وقال تعالى : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ) ( 24 : 55 ) وهذا استخلاف خاص وذلك عام .
والمعنى : أن ربكم الذي هو رب كل شيء هو الذي جعلكم خلائف في الأرض بعد أمم [ ص: 221 ] سبقت ولكم في سيرتها عبر ، ورفع بعضكم فوق بعض درجات في الخلق والخلق ، والغنى والفقر ، والقوة والضعف ، والعلم والجهل ، والعقل والجهل ، والعز والذل ، ليختبركم فيما أعطاكم ، أي يعاملكم معاملة المختبر لكم في ذلك فيبني الجزاء على العمل ، بمعنى أن سننه تعالى في تفاوت الناس فيما ذكرنا من الصفات الوهبية والأعمال الكسبية ، هي التي يظهر بها استعداد كل منهم ودرجة وقوفه في تصرفه في النعم والنقم عند وصايا الدين وحدود الشرع ووجدان الاطمئنان في القلب ، والحقوق والواجبات تختلف باختلاف أحوال الناس في تلك الدرجات ، وسعادة الناس أفرادا وأسرا وأمما ، وشقاوتهم في الدنيا والآخرة تابعة لأعمالهم وتصرفاتهم في مواهبهم ومزاياهم وما يبتليهم به تعالى من النعم والنقم ، ولا شيء مما يطلبه الناس من سعادة الدنيا ونعمها أو رفع نقمها ، أو من ثواب الآخرة والنجاة من عذابها إلا وهو منوط بأعمالهم التي ابتلاهم بها بحسب ما قرره شرعه المبني على توحيده المجرد ، ومضت به سننه في نظام الأسباب والمسببات ، فبقدر علمهم بالشرع وسنن الكون والاجتماع البشري يكون حظهم من السعادة .
فهذه الهداية الاجتماعية مقررة لعقيدة التوحيد وهادمة لقواعد الشرك التي هي عبارة عن اتكال الناس واعتمادهم على ما اتخذوا بينهم وبين ربهم من الوسطاء ليقربوهم إليه ويشفعوا لهم عنده فيما يطلبون من نفع ودفع ضر كما تقدم شرحه ; ولهذا ترى هؤلاء المشركين من حيث يشعرون أو من حيث لا يشعرون أشقى الناس وأبعدهم عن نيل مآربهم ، وترى خصومهم دائما ظافرين بهم ، وإن كانوا شرا منهم فيما عدا هذا النوع من الشرك ، فربما ترى قوما يدعون الإيمان بالله ورسله كلهم أو بعضهم ، يعتمدون في قضاء حاجتهم من شفاء مرض وسعة رزق ونصر على عدو وغير ذلك ، على لهم ودعائهم والطواف بقبورهم والتمسح بها ، وتجد آخرين ليس لهم مثل اعتقادهم وعملهم هذا وهم أحسن منهم صحة ، وأوسع رزقا وأعز ملكا ، وإذا قاتلوهم ينتصرون عليهم ويسودونهم ، وسبب ذلك أنهم يعرفون سنن الله في الأسباب والمسببات وأن الرغائب إنما تنال بالأعمال مع مراعاة تلك السنن ، سواء كانوا يعلمون مع ذلك أن الله تعالى رب الخلق هو الخالق والواضع لنظام خلقه بتلك السنن ، وأنه لا تبديل لسننه ، كما أنه لا تبديل لخلقه أم لم يكونوا يعلمون ذلك . التوسل ببعض الأنبياء والصالحين وذبح النذور
ولو استوى شعبان من الناس في الجري على هذه السنن الربانية للاجتماع الإنساني في القوة والضعف والعز والذل والحرية والعبودية ، وكان أحدهما مؤمنا بالله مستمسكا بوصاياه وهداية دينه ، والآخر كافرا به غير مهتد بوصاياه ، فلا شك في أن المؤمن المهتدي يكون أعز وأسعد في دنياه من الآخر ، كما أنه يكون في الآخرة هو الناجي من العذاب ، الفائز [ ص: 222 ] بالثواب ، ومن جهل مصداق ذلك في تواريخ الأمم القديمة لعدم ضبطها ، فأمامه تاريخ الأمة الإسلامية واضح جلي ، ولكن أكثر المنتمين إلى الإسلام في هذا العصر يجهلون تاريخهم كما يجهلون حقيقة دينهم ، حتى إن كثيرا من حملة العمائم الدينية منهم يجهلون حقيقة التوحيد الذي بينته هذه الآيات بالإجمال بعد شرح السورة له بالتفصيل ، وربما يعد بعضهم الداعي إليه كافرا أو مبتدعا ، ويعتمدون في هذا على قوة أنصارهم من العوام الذين أضلوهم . وهم غافلون عن عقاب الله لهم ، وعن كونهم صاروا فتنة للناس وحجة على الإسلام ، فأعداؤه يحتجون بجهلهم وسوء حالهم على فساد دينهم المسمى - وإن لم يكن هو - الإسلام الذي نزل به القرآن بل ضده ، وأولياؤه الجاهلون يتسللون منه فرادى وثبات - كالتلاميذ - بما يظهر للذين يقتبسون علوم سنن الكائنات وعلم الاجتماع من مخالفته لها ، وإنما المخالف لها بدعهم وتقاليدهم الخرافية . وأما فهو المرشد الأعظم لها ولو فهموه وعملوا به لكانوا أسبق إليها . دين الله في كتابه القرآن
واضرب لهم مثلا أهل مراكش : أنشأنا منذ أنشأنا المنار نذكرهم بآيات الله وسننه وأنذرناهم بالهلاك والزوال بفقد الاستقلال إذا لم يوجهوا كل همتهم إلى ما تقتضيه حالة العصر من التربية والتعليم العسكري وغيره ، وأرشدناهم إلى الاستعانة على ذلك بالدولة العثمانية فكان يبلغنا عنهم أنهم يجتمعون عند حلول النوائب بهم وتعدي الأجانب عليهم عند قبر ( مولاي إدريس ) في فاس راجين أن يكشف باستنجادهم إياه ما نزل بهم من البأس أنذرناهم بطشة الله بترك هدي كتابه وتنكب سننه فتماروا بالنذر واتكلوا على ميت لا يملك لهم ولا لنفسه شيئا من نفع ولا ضرر ، وكم سبق هذه العبرة من عبر ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) .
نزل في معنى هذه الآية آيات كثيرة ناطقة بأن نعم الله في الأنفس والآفاق مما يفتن الله به عباده - أي يربيهم ويختبرهم - ليظهر أيهم أحسن عملا فيترتب عليه الجزاء في الدارين . قال تعالى في بني إسرائيل : ( وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ) ( 7 : 168 ) وقال في خطاب كل البشر : ( ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ) ( 21 : 35 ) وقال بعد ذكر خلق السموات والأرض وخلق الموت والحياة : ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) ( 11 : 7 ، 67 : 2 ) وقال : ( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ) ( 18 : 7 ) وقال في ابتلاء المؤمنين بالكافرين : ( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون ) ( 25 : 20 ) وقال في خطاب المؤمنين : ( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) ( 3 : 186 ) [ ص: 223 ] وقال : ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ) ( 2 : 155 ) وقال : ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ) ( 47 : 31 ) وقال : ( الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) ( 29 : 1 - 3 ) وقال حكاية عن نبيه سليمان : ( هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم ) ( 27 : 40 ) وثم آيات أخرى .
أرشدنا الله تعالى في هذه الآيات وأمثالها إلى طريق ، ورفع بعضنا درجات على بعض ، بأن نصبر في البأساء والضراء ، ونشكر في السراء ، الاستفادة من سننه في جعلنا خلائف في الأرض ، وهو ما يرضي المنعم تعالى وتظهر به حكمته ، وتعم رحمته ، كإنفاق فضل المال في وجوه البر التي تنفع الناس ، وإعداد القوة بقدر الاستطاعة لتأييد الحق وإقامة العدل . والشكر عبارة عن صرف النعم فيما وهبت لأجله ، ومن لم يهتد بهذه الهداية الربانية في الاستفادة من النعم والنقم فإنه يسيء التصرف في الحالتين فيظلم نفسه ويظلم الناس ، وأن العقل الصحيح والفطرة السليمة مما يهدي إلى الصبر والشكر ، ولكن لا تكمل الهداية إلا بتعليم الوحي ; لأن الإسلام قد شرع لمساعدة العقل على حفظ مواهب الله تعالى في الفطرة ومنع الهوى من إفسادها ، وصدها عن الوصول إلى كمالها ، ولذلك سمي دين الفطرة ، فالمسلمون أجدر الناس بالصبر ، ولكل نعمة بدنية أو عقلية أو علمية أو مالية أو حكمية شكر خاص ، ومنجاة من جميع الشدائد والأهوال ، وأحقهم بالشكر ، والصبر عون على الجهاد والجلاد ، فلو كانوا مهتدين به كما يجب لكانوا أعظم الناس ملكا وأعدلهم حكما . وأوسعهم علما ، وأشدهم قوة ، وأكثرهم ثروة ، وكذلك كان به سلفهم . وقد أخبرهم الله بأنه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، ولكن التقليد أضلهم عن تدبر القرآن ، والاتكال على الميتين حال بينهم وبين سنن الله في هذا الإنسان : ( والشكر سبب للمزيد من النعم فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ) ( 20 : 123 ، 124 ) ( وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا ) ( 72 : 16 ، 17 ) ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ، ونعيمها أدوم وأعلى ، كما قال تعالى بعد بيان حال من يريد بعمله حظوظ الدنيا وحدها ، ومن يريد الآخرة ويسعى لها سعيها : ( كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ) ( 17 : 21 ) وإنما جعل الدنيا للمؤمن والكافر ، والبر والفاجر ، لئلا تعظم الفتنة بجعل نعيمها كله أو معظمه للكفار وحدهم فيكون الناس كلهم لضعفهم كفارا ، قال [ ص: 224 ] تعالى : ( أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ) إلى قوله : ( والآخرة عند ربك للمتقين ) ( 43 : 32 - 35 ) .