( المسألة الثانية : ما مذهب أهل السنة )
قد علمت أن السيد الألوسي عزا إبراهيم الخليل - عليه الصلاة والسلام - إلى الجم الغفير من أئمة أهل السنة ، وأن هذه هفوة منه - عفا الله تعالى عنه - ولا يخفى على مثله أن هذا اللفظ لا يصح أن يطلق على رأي كل من صنف رسالة أو كتابا من المنتسبين إلى مذاهب أهل السنة في الأصول أو الفروع . وإنما مذهب أهل السنة والجماعة ما كان عليه السواد الأعظم من الصحابة وعلماء التابعين ، وأئمة الحديث والفقه ممن تبعهم في الاعتصام بنصوص الكتاب والسنة . ومن غير تحريف ولا تكلف لإرجاع ظواهرها إلى ما ابتدع من البدع والآراء التي أحدثها أهل الأهواء ، ومنهم فقهاء الأمصار المشهورون ، القول بإيمان أبي كأبي حنيفة ، ومالك ، ، والشافعي وأحمد ، ، وسفيان الثوري ، والأوزاعي وداود ، وغيرهم . وقد انتسب إلى بعض مذاهب هؤلاء كثير من أهل الكلام فخالفوهم في بعض الأصول كبعض المعتزلة من الشافعية ، وكثير من المعتزلة والمرجئة من الحنفية ، وأقرب المتكلمين إليهم الأشاعرة ، وأكثرهم من المالكية والشافعية والماتريدية من الحنفية ، ولكن هؤلاء قد اضطروا إلى الخوض في مسائل من الكلام لم تؤثر عن أئمتهم في الفقه ، ولا عن غيرهم من السلف الصالح ، واختلف الأشعرية والماتريدية في كثير منها كما اختلف الأولون منهم في عدة مسائل خالف بعضهم فيها الأشعري ، أو خالف بعضهم بعضا ، فهم على انتسابهم كلهم إلى السنة لا يصح أن يجعل كل ما قرره واحد أو آحاد منهم مذهبا لأهل السنة والجماعة ، وإن تقلد ذلك الكثيرون من الناس ، وإنما القاعد في كل ما حدث بعد الصدر الأول من الأقوال والآراء ، وتنازع فيه العلماء فلم يجمعوا فيه على قول أن يرد إلى الكتاب والسنة ، فيؤخذ ما وافقهما ويرد ما خالفهما عملا بقوله تعالى : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) [ ص: 461 ] ( 4 : 59 ) الآية . وقد بينا نصوص القرآن والسنة الصحيحة في مسألة آباء الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكلام بعض علماء السلف والخلف في الأخذ بها من غير تأويل فكل ما خالفها فهو مردود ، وليس من مذهب أهل السنة في شيء .
هذا وإنني بعد كتابة ما تقدم وجمعه للطبع عثرت بالمصادفة على ما كتبه الألوسي في مسألة استغفار إبراهيم لأبيه من تفسير سورة الممتحنة ، فإذا هو مبني على رجوعه عن هفوته التي نقلناها عنه وانتقدناها عليه ، وحملنا ذلك على مراجعة ما كتبه في المسألة من تفسير سورة التوبة ، فإذا هو مثل الذي في تفسير سورة الممتحنة في بنائه على أن آزر أبو إبراهيم ، وأنه مات مشركا ، وهذا هو اللائق بعلمه واستقلاله في الفهم ، وهذا شأن علماء السنة ؛ إذا قال أحدهم قولا ثم كان الدليل من أحدهما أو كليهما ، وهو من الخطأ الذي يغفره الله تعالى للمخلصين الأوابين ، بل ثبت في الحديث الصحيح أن الحاكم إذا اجتهد فأخطأ فله أجر ، أي أجر الاجتهاد ، وإذا اجتهد فأصاب كان له أجران ، أي أجر الاجتهاد وأجر الإصابة ، وهذا مما يؤكد اتقاء الاغترار بقول أي عالم خالف النص أو ما اشتهر عن السلف الصالح - رضي الله تعالى عنهم ، ووفقنا للاقتداء بهم .