( وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ) مما اقترحوه عليك من الآيات ليؤمنوا فافعل أو فأتهم بها ، يقال كبر على فلان الأمر ، أي عظم عنده وشق عليه وقعه . والإعراض : التولي والانصراف عن الشيء رغبة عنه أو احتقارا له ، وهو من إبداء المرء عرض بدنه عند توليه عن الشيء واستدباره له ، واستطعت الشيء : صار في طوعك منقادا لك باستيفاء الأسباب التي تمكنك من فعله ، والابتغاء : طلب ما في طلبه كلفة ومشقة أو تجاوز للمعتاد أو للاعتدال ، أو طلب غايات الأمور وأعاليها ، لأنه افتعال من البغي وهو تجاوز الحد في الطلب أو الحق . ويكون في الخير كابتغاء رضوان الله وهو غاية الكمال ، وفي الشر كابتغاء الفتنة وهو غاية الضلال ، والنفق : السرب في الأرض وهو حفرة نافذة لها مدخل ومخرج ، كنافقاء اليربوع ، وهو جحره يجعل له منافذ يهرب من بعضها إذا دخل عليه من غيره ما يخافه . والسلم : المرقاة ، مشتق من السلامة . قال : لأنه الذي يسلمك إلى مصعدك . وتذكيره أفصح من تأنيثه ، وإنما يؤنث بمعنى الآلة ، وأتى ب " كان " فعلا للشرط ؛ ليبقى الشرط على المضي ولا ينقلب مستقبلا كما قالوا ، فإن " إن " لا تقلب " كان " مستقبلا لقوة دلالته على المضي . والنحوي يؤول مثل هذا التركيب بنحو : وإن تبين وظهر أنه كبر عليك إعراضهم ، وجواب الشرط محذوف للعلم به ، تقديره : فافعل كما تقدم . الزجاج
تقدم في أوائل السورة أنهم كانوا يقترحون الآيات على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكأنه كان يتمنى لو آتاه الله بعض ما طلبوا حرصا على هدايتهم ، وأسفا وحزنا على إصرارهم على غوايتهم ، وتألما من كفرهم وأذيتهم ، ولكن الله تعالى يعلم أن أولئك المقترحين الجاحدين لا يؤمنون وإن رأوا من الآيات ما يطلبون وفوق ما يطلبون ، كما تقدم شرحه في تفسير أوائل السورة [ راجع تفسير الآية السابعة وما بعدها ص 258 ج 7 ط الهيئة ] وقد أراد تعالى أن يؤكد لرسوله ما يجب من الصبر على تكذيب المشركين وأذاهم الدال عليه ما قبله ، وأن يريح قلبه الرءوف الرحيم من إجابتهم إلى ما اقترحوا من الآيات ؛ لما تقدم من حكمة ذلك ، فقال له : وإن كان شأنك معهم أنه كبر عليك إعراضهم عن الإيمان وعن الآيات القرآنية والعقلية الدالة عليه - ومنها ما سبق في هذه السورة - وظننت أن إتيانهم بآية مما اقترحوا [ ص: 319 ] يدحض حجتهم ، ويكشف شبهتهم ، فيعتصمون بعروة الإيمان ، عن بينة ملزمة وبرهان ، فإن استطعت أن تبتغي لنفسك نفقا كائنا في الأرض - أو معناه : تطلبه في الأرض - فتذهب في أعماقها ، أو سلما في جو السماء ترتقي عليه إلى ما فوقها ، فتأتيهم بآية مما اقترحوه عليك منهما فائت بما يدخل في طوع قدرتك من ذلك ، كتفجير ينبوع لهم في الأرض ، أو تنزيل كتاب تحمله لهم من السماء ، وقد كانوا طلبوا أحد النوعين كما حكاه الله تعالى عنهم بقوله في " سورة الإسراء " : ( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ) إلى قوله : ( أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ) ( 17 : 90 - 93 ) وقد أمره الله تعالى أن يجيب عن ذلك بقوله عقب هذا : ( قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ) أي وليس ذلك في قدرة البشر وإن كان رسولا ; لأن الرسالة لا تخرج الرسول عن طور البشر في صفاتهم البشرية كالقدرة والاستطاعة ، فهم لا يستطيعون إيجاد شيء مما يعجز عنه البشر في صفاتهم البشرية كالقدرة والاستطاعة ، فهم لا يستطيعون إيجاد شيء مما يعجز عنه البشر ولا يقدر عليه غير الخالق تعالى . والمراد من هذه الآية أنك لا تستطيع أيها الرسول الإتيان بشيء من تلك الآيات ولا ابتغاء السبل إليها في الأرض ولا في السماء ، ولا اقتضت مشيئة ربك أن يؤتيك ذلك ؛ لعلمه بأنه لا يكون سببا لما تحب من هدايتهم ؛ ولأن من سنته أن يترتب على الجحود بعده إنزال العذاب عليهم ، وتقدم بيان هذا في تفسير الآيتين السادسة والسابعة من هذه السورة .
( ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين ) أي ولو شاء الله تعالى جمعهم على ما جئت به من الهدى لجمعهم عليه بجعل الإيمان ضروريا لهم كالملائكة ، أو بخلقهم على استعداد واحد للخير والحق فقط ، لا متفاوتي الاستعداد مختلفي الاختيار باختلاف العلوم والأفكار والأخلاق والعادات ، كما اقتضته حكمته في خلق الناس ، ولكنه شاء أن يخلق البشر على ما هم عليه من الاختلاف والتفاوت في الاستعداد ، وما يترتب عليه من اختلاف أسباب الاختيار ، فإذا عرفت سنته هذه في خلق هذا النوع ، وأنه لا تبديل لخلق الله ، فلا تكونن من القوم الجاهلين بسنن الله تعالى في خلقه الذين يتمنون ما يرونه حسنا ونافعا ، وإن كان حصوله ممتنعا ، لكونه مخالفا لتلك السنن التي اقتضتها الحكمة الإلهية . فالجهل هنا ضد العلم لا ضد الحلم ، وليس كل جهل بهذا المعنى عيبا ; لأن المخلوق لا يحيط بكل شيء علما ، وإنما يذم الإنسان بجهل ما يجب عليه ، ثم بجهل ما ينبغي له ويعد كمالا في حقه إذا لم يكن معذورا في جهله . قال تعالى في الفقراء المتعففين : ( يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ) ( 2 : 273 ) فوصف الجاهل هنا غير ذم ، وكان عدم علم خاتم الرسل بالكتابة من أركان آياته ، وعدم علمه بالشعر من أدلة الوحي وبيناته ، وكل ما يتوقف علمه على الوحي الإلهي لا يكون جهل الرسول إياه قبل نزوله عليه عيبا يذم به ؛ إذ لا يذم الإنسان إلا بما يقصر في تحصيله وكسبه ، وقد أمر الله تعالى رسوله بأن يسأله [ ص: 320 ] زيادة العلم ، وكان يزيده كل يوم علما وكمالا بتنزيل القرآن وبفهمه ، وبغير ذلك من العلم والحكمة ، ولا يقتضي ذلك الذم قبل هذه الزيادة ، وإنما الذي يذم مطلقا هو الجهل المرادف للسفه وهو ضد الحلم .
ويشبه ما هنا قوله تعالى لنوح حين طلب نجاة ابنه الكافر بناء على أنه من أهله الذين وعده الله بإنجائهم معه : ( يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) ( 11 : 46 ) أي بإدخال ولدك الكافر في عموم أهلك المؤمنين ، وإنما اقترن النهي هنا بالوعظ لأن عاطفة الرحمة الوالدية حملته على سؤال ما ليس له به علم اعتمادا على استنباط اجتهادي غير صحيح ، ورحمة خاتم الرسل - صلى الله عليه وسلم - كانت أعم وأشمل ، وغاية ما تشير إليه الآية أنه تمنى ولكنه لم يسأل ، ولو سأل لسأل آية يهتدي بها الضال من قومه ، لا نجاة الكافر من أهله ، فاكتفى في إرشاده بالنهي وحسن في إرشاد نوح التصريح بالوعظ .