بين الله تعالى لنا في هذه الآيات شأنا آخر من شئون الكفار المكذبين بآياته في الدنيا وهو غرورهم بها ، وافتتانهم بمتاعها ، وإنكارهم البعث والجزاء ، وما يقابله من حالهم في الآخرة يوم يكشف الغطاء ، وهو ما يكون من حسرتهم وندمهم على تفريطهم السابق ، وغرورهم بذلك المتاع الزائل ، وقفى عليه ببيان حقيقة الدنيا والمقابلة بينها وبين الآخرة ، فقال عز من قائل :
( وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ) قيل : إن هذه الآية تتمة لما سبقها ، وإن " قالوا " فيها معطوف على " عادوا " فيما قبلها ، أي لو رد أولئك إلى الدنيا لعادوا [ ص: 299 ] لما نهوا عنه من الكفر وسيء الأعمال ، وصرحوا ثانية بما كانوا عليه من إنكار البعث والجزاء ، والظاهر المختار ما بيناه آنفا فالعطف فيه عطف جمل مستأنف ، و ( إن ) في ابتداء مقول القول نافية بمعنى " ما " أي وقال أولئك المشركون : ما الحياة إلا حياتنا الدنيا لا حياة بعدها ، وما نحن بمبعوثين بعد الموت ، وسنذكر ما يستلزمه هذا الاعتقاد من الشر والفساد في آخر تفسير هذه الآيات .
( ولو ترى إذ وقفوا على ربهم ) تقدم تفسير مثل هذا التعبير قريبا ، ووقفهم على ربهم عبارة عن وقف الملائكة إياهم في الموقف الذي حاسبهم فيه ربهم ، وإمساكهم فيه إلى أن يحكم بما شاء فيهم ، فهو من قبيل وقوفا بها صحبي علي مطيهم أي يقفون مطيهم عندي وقوفا ، ولا يشترط في هذا أن يكونوا في مكان أعلى من المكان الذي هو فيه . أو المعنى يحبسونها علي بإمساكها عندي . وإنما عدى الوقف والوقوف الذي بهذا المعنى بعلي وكذا الحبس والإمساك الذي فسر به لدلالته على معنى القصر ، قال تعالى : ( فكلوا مما أمسكن عليكم ) ( 5 : 4 ) أي مما أمسكته الجوراح مقصورا عليه فلم تأكل منه لأجلكم ، وكذلك حبس العقار ووقفه على الفقراء وسائر وجوه البر فيه معنى قصره على ذلك . والذين تقفهم الملائكة وتحبسهم في موقف الحساب امتثالا لأمر الله تعالى فيهم : ( وقفوهم إنهم مسئولون ) ( 37 : 24 ) يكونون مقصورين على أمر الله تعالى ، أو يكون أمرهم مقصورا على الله تعالى لا يتصرف فيه غيره ( يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ) ( 82 : 19 ) وإنما أطلت في بيان كون استعمال " وقف " هنا متعديا بعلى بمعنى ما تقدم قريبا في تفسير قوله تعالى : ( وقفوا على النار ) ( 27 : 6 ) لأن المفسرين اضطربوا في التعدية هنا فحمل الكلام بعضهم على التمثيل ، وبعضهم على الكناية ، وبعضهم على مجاز الحذف أو على غيره من أنواع المجاز ، وجعله بعضهم من الوقوف على الشيء معرفة وعلما وجاء بعضهم بتأويلات أخرى لا حاجة إلى ذكرها .
بينا آنفا في تفسير ( ولو ترى إذ وقفوا على النار ) أن جواب " لو " حذف لتذهب النفس في تصوره كل مذهب يقتضيه المقام ، وللإيذان بأنه لا يحيط به نطاق الكلام ، ومن شأن السامع لمثل هذا أن ينتظر بيانا لما يقع في تلك الحال ، فإن لم يوافه المتكلم به توجهت نفسه إلى السؤال عنه ، فلهذا جاء البيان جوابا لسؤال مقدر وهو قوله تعالى : ( قال أليس هذا بالحق ) إدخال الباء على الحق يفيد تأكيد المعنى ، أي قال لهم ربهم أليس هذا الذي أنتم فيه من البعث هو الحق الذي لا ريب فيه ؟ ( قالوا بلى وربنا ) أي بلى هذا الحق الذي لا ريب فيه ولا باطل يحوم حوله ، اعترفوا وأكدوا اعترافهم باليمين ، فشهدوا بذلك على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ، فبماذا أجابهم رب العالمين ؟ (
تكفرون قال فذوقوا العذاب بما كنتم . [ ص: 300 ] . ) أي إذا كان الأمر كذلك ، فذوقوا العذاب الذي كنتم به تكذبون ، بسبب كفركم الذي كنتم عليه دائمون . ثم قفى على ذكر ما ربحوا من الشقاء والعذاب ، ببيان ما خسروا من السعادة والثواب وإنما هو خسر على خسر فقال :
( قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله ) أي خسر أولئك الكفار الذين كذبوا بلقاء الله تعالى كل ما ربحه وفاز به المؤمنون بلقائه من ثمرات الإيمان وعبادة الله ومناجاته في الدنيا ، كالقناعة والإيثار والرضاء من الله في كل حال ، والشكر له عند النعمة والصبر والعزاء والطمأنينة عند المصيبة ، وغير ذلك من المزايا التي تصغر معها المصائب والشدائد ، ويكبر قدر النعم والمواهب . ومن ثمرات الإيمان في الآخرة من الحساب اليسير ، والثواب الكبير والرضوان الأكبر ، وهو " ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " كل ذلك مما يخسره المكذبون بلقاء الله بسبب تكذيبهم; لأنهم يخسرون في الحقيقة أنفسهم ، وإنما حذف مفعول " خسر " للدلالة على ذلك كله ، وجعل فاعله موصولا لدلالة صلته على سبب الخسران ، لأن التكذيب بلقاء الله تعالى يستلزم ما سيأتي بيانه من الأعمال والأحوال التي تفسد النفس ، ومن خسر نفسه بفسادها خسر كل شيء .
( حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة ) أي كذبوا إلى أن جاءتهم الساعة مباغتة مفاجئة ، وقيل : إن الغاية للخسران بقصره على ما كان منه في الدنيا . والساعة في أصل اللغة الزمن القصير المعين بعمل يقع فيه ، يقال : جلست إليه ساعة ، وغاب عني ساعة ، وأطلق في كتب الدين على الوقت الذي ينقضي به أجل هذه الحياة ويخرب هذا العالم ، وإنما يكون ذلك في زمن قصير . وعلى ما يلي ذلك من البعث والحساب وهو يوم القيامة . فإن كان إطلاقه عليه بالتبع لإطلاقه على ساعة خراب العالم فذاك ، وإلا كان وجه تسميته ساعة باعتبار سرعة الحساب فيه [ راجع ص 190 ج 2 ط الهيئة ] أو بالإضافة إلى ما بعده قولان : وهذه الساعة ساعة هذا العالم كله ، ومن دونها ساعة كل فرد وقيامته ، وهو الوقت الذي يموت فيه ويقدم على ذلك العالم ، وكذا ساعة الأمة أو الجيل; ولذلك قالوا : إن القيامة ثلاث : كبرى ووسطى وصغرى ، وقد تقدم هذا البحث في الجزء الخامس من التفسير [ راجع ص 174 ج 5 ط الهيئة ] وفسر الراغب الساعة هنا بالقيامة الصغرى ، إذ هو الذي ينطبق على الكفار الذين نزلت فيهم هذه الآيات ، والقيامة الكبرى إنما تقوم على آخر من يكون من الخلق على هذه الأرض . والجمهور يفسرونها بالقيامة الكبرى وهي باعتبار غايتها - وهو يوم يقوم الناس لرب العالمين - تصدق على من نزلت الآية : فيهم وعلى غيرهم ، وباعتبار بدايتها تصدق على آخر من يعيش في الدنيا فقط . ويرون أن البغتة لا تظهر في موت الأفراد لما يكون له في الغالب من المقدمات والعلامات التي يعرف بها وقته في الجملة ، وقد ذكر مجيء الساعة [ ص: 301 ] بغتة في عدة آيات غير هذه يتعين أن يكون المراد بها القيامة الكبرى العامة ، وهي التي ورد في الكتاب والسنة أن الله تعالى أخفى علمها عن كل أحد حتى الرسل والملائكة . وأما قوله تعالى : ( وما تدري نفس بأي أرض تموت ) ( 31 : 34 ) فلا يدل على مجيء الموت بغتة ، ولا على جهل كل أحد بوقته ، فقد يعرف بأسبابه كالأمراض والجروح وقد يقال : إن المرض ونحوه لا يدل على الموت مهما يكن شديدا ، فكم من مريض جزم الأطباء بأنه لا يعيش إلا أياما أو ساعات قد شفي من مرضه ذاك وعاش بعده عدة أعوام ، على أن المريض لا ييئس من الحياة ما دام فيه رمق ، فبهذا الاعتبار يصح أن يقال فيه - إن مات في مرضه - : أن الموت جاءه بغتة ، وإن كان هذا لا يعد في العرف من موت الفجأة ، ومن لم يجئه الموت فجأة جاءه المرض الذي يعقبه الموت فجأة ، ولات حين استعداد ، ولا رجوع عن شرك وإلحاد ، بل يموت المرء على ما عاش عليه ، ويبعث على ما مات عليه ، ويندر أن يظهر لأحد في مرض مماته ضلاله الذي عاش عليه طول حياته ، ولا ينكشف الغطاء عن الإنسان ويعلم أنه فارق هذه الحياة إلى العالم الآخر إلا عند خروج روحه من بدنه ، حينئذ يتحسر المفرطون ، ويندم المجرمون ، ثم تتجدد الحسرة في موقف الحساب ، وتتضاعف عند حلول العذاب .
( قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها ) هذا جواب " إذا " أي : قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وأصروا على ذلك ، حتى إذا جاءتهم منيتهم وهي بالنسبة إليهم مبدأ الساعة العامة والمرحلة الأولى من مقدمات القيامة ، مفاجئة لهم من حيث لم يكونوا ينتظرونها ، ولا يحسبون حسابا ولا يعدون عدة لمجيئها ، قالوا : يا حسرتنا على تفريطنا ! .
هذا أوانك فاحضري وبرحي بالأنفس ما شئت أن تبرحي
والحسرة - كما قال الراغب - الغم على ما فات والندم عليه ، كأن المتحسر قد انحسر ( أي زال وانكشف ) عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه ، أو انحسرت عنه قواه من فرط الغم ، أو أدركه إعياء عن تدارك ما فرط منه ، ونداء الحسرة فسره بالمعنى الذي بيناه آنفا ، وقال سيبويه : إن معنى حرف النداء تنبيه المخاطبين ، وقيل : بل المراد به تنبيه المتكلم لنفسه ، وتذكيرها بسبب ما حل به . والتفريط التقصير ممن قدر على الجد والتشمير . وهو من الفرط بمعنى السبق ومنه الفارط والفرط : الذي يسبق المسافرين لإعداد الماء لهم . والتضعيف فيه للسلب والإزالة كجلدت البعير إذا سلخت جلده وأزلته عنه . فيكون معنى التفريط الحقيقي عدم الاستعداد لما ينفع في المستقبل كتقديم الفرط ، أي يا حسرتنا وغمنا وندمنا على ما كان من تفريطنا فيها ، أي في حياتنا الدنيا التي كنا نزعم أن لا حياة لنا بعدها ، أو في الساعة أو ما هي مفتاح له من الدار الآخرة وهي تشمل الجنة والنار ، وقد جعلهما بعضهم مرجعين مستقلين ، أي على تفريطنا [ ص: 302 ] في شأنها بعدم الاستعداد لها بالإيمان والعمل الصالح ، وقيل : إن الضمير للأعمال الصالحات المفهومة من كلمة " فرطنا " لأن التقصير إنما يكون في العمل ، وقيل : للصفقة المفهومة من كلمة " خسر " وهي بيعهم الآخرة بالدنيا ، وهذا أضعف الأقوال ، وأقواها أولها ، وهو مروي عن الزجاج - رضي الله عنه . ومن غرائب غفلات المفسرين ما نقله بعض أذكيائهم عن بعض من دعوى أن مرجع الضمير في هذا القول غير مذكور في كلامهم ، على كونه هو المذكور فيه دون سواه من المراجع الثلاثة الأخرى ، ولكنهم ذهلوا عن قوله تعالى حكاية عنهم : ( ابن عباس وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا ) إلخ ، وعن كون ما بعده بيانا لعاقبته وما ترتب عليه لا سياقا جديدا مستقلا ، وأما الساعة فهي مذكورة فيما حكاه الله من شأنهم لا عنهم ، فكان عود الضمير عليها في المرتبة الثانية من القوة .( وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ) الأوزار : جمع وزر ، وهو بالكسر الحمل الثقيل ، ووزره ( بوزن وعده ) حمله على ظهره ، ويطلق الوزر على الإثم والذنب ; لأن ثقله على النفس كثقل الحمل على الظهر ، وهو المراد في الآية ، وجعل الذنوب محمولة على الظهور مجاز من باب التمثيل بالاستعارة ؛ لأن حالة الأنفس فيما تقاسيه من سوء تأثير الذنوب فيها وما يترتب على ذلك من التعب والشقاء والآلام يشبه هيئة الأبدان في حال نوئها بالأحمال الثقيلة ، وما تقاسيه في ذلك من التعب والجهد والزحير ، أو هو محمول على القول بتجسم المعاني والأعمال في الآخرة ، وتمثلها هي ومادتها بصور تناسبها في الحسن أو القبح ، كما ورد في الغلول والمال الذي لا تؤدى زكاته ، وروى ابن جرير عن وابن أبي حاتم السدي أن الأعمال القبيحة تتمثل بصورة رجل حسن أو صورة حسنة تحمل صاحبها يوم القيامة ، ويجوز أن يكون هذا القول من قبيل التمثيل أيضا . والمعنى أنهم ينادون الحسرة التي أحاطت بهم أسبابها وهم في أسوأ حال بما يحملون من أوزارهم على ظهورهم ، وقد بين الله تعالى سوء تلك الحال التي تلابسهم عند اللهج بذلك المقال بقوله : ( وعمرو بن قيس الملائي ألا ساء ما يزرون ) فبدأ هذه الجملة بألا الافتتاحية التي يراد بها العناية بما بعدها وتوجيه ذهن السامع إليه ، يفيد المبالغة في تقريره وتأكيد مضمونه ووجوب الاهتمام بالاعتبار به و ( ساء ) فعل ذم أشرب معنى التعجب أو التعجيب ، أي : ما أسوأ حملهم ذاك ! أو : ما أسوأ تلك الأثقال التي يحملونها ، وقيل : إن ( ساء ) هنا الفعل المتعدي ، أي ساءهم وأحزنهم حملهم لتلك الأوزار ، أو ساءتهم تلك الأوزار التي يحملونها . والأول أبلغ .