وقد ذكرنا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " وجه الجمع بين تلك الآيات وآية " الشورى " هذه ، فقلنا فيه :
اعلم أولا أن في قوله - تعالى - : إلا المودة في القربى أربعة أقوال : الأول : ما رواه وغيره عن الشعبي ، وبه قال ابن عباس مجاهد وقتادة وعكرمة وأبو مالك والسدي والضحاك وابن زيد وغيرهم ، كما نقله عنهم وغيره - أن معنى الآية ابن جرير قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ، أي إلا أن تودوني في قرابتي التي بيني وبينكم ، فتكفوا عني أذاكم وتمنعوني من أذى الناس ، كما تمنعون كل من بينكم وبينه مثل قرابتي منكم ، وكان - صلى الله عليه وسلم - له في كل بطن من قريش رحم ، فهذا الذي سألهم ليس [ ص: 70 ] بأجر على التبليغ ; لأنه مبذول لكل أحد ; لأن كل أحد يوده أهل قرابته وينتصرون له من أذى الناس .
وقد فعل له ذلك أبو طالب ولم يكن يسأل أجرا على التبليغ ; لأنه لم يؤمن .
وإذا كان لا يسأل أجرا إلا هذا الذي ليس بأجر - تحقق أنه لا يسأل أجرا ، كقول النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
ومثل هذا يسميه البلاغيون تأكيد المدح بما يشبه الذم .
وهذا القول هو الصحيح في الآية ، واختاره ، وعليه فلا إشكال . ابن جرير
الثاني : أن معنى الآية إلا المودة في القربى ، أي لا تؤذوا قرابتي وعترتي ، واحفظوني فيهم ، ويروى هذا القول عن سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب وعلي بن الحسين ، وعليه فلا إشكال أيضا .
لأن واجبة فيما بينهم ، وأحرى قرابة النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال - تعالى - : المودة بين المسلمين والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض [ 9 \ 71 ] . وفي الحديث " " وقال - صلى الله عليه وسلم - " مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كالجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " . والأحاديث في مثل هذا كثيرة جدا . لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه
وإذا كان نفس الدين يوجب هذا بين المسلمين ، تبين أنه غير عوض عن التبليغ .
وقال بعض العلماء : الاستثناء منقطع على كلا القولين ، وعليه فلا إشكال .
فمعناه على القول الأول لا أسألكم عليه أجرا لكن أذكركم قرابتي فيكم .
وعلى الثاني : لكن أذكركم الله في قرابتي ، فاحفظوني فيهم .
القول الثالث - وبه قال الحسن - : ( إلا المودة في القربى ) أي إلا أن تتوددوا إلى الله ، وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصالح ، وعليه فلا إشكال ; لأن التقرب إلى الله ليس أجرا على التبليغ .
[ ص: 71 ] القول الرابع : ( إلا المودة في القربى ) أي إلا أن تتوددوا إلى قراباتكم وتصلوا أرحامكم ، ذكر هذا القول عن ابن جرير عبد الله بن قاسم ، وعليه أيضا فلا إشكال .
لأن صلة الإنسان رحمه ليست أجرا على التبليغ ، فقد علمت الصحيح في تفسير الآية ، وظهر لك رفع الإشكال على جميع الأقوال .
وأما القول بأن قوله - تعالى - : إلا المودة في القربى - منسوخ بقوله - تعالى - : قل ما سألتكم من أجر فهو لكم [ 34 \ 47 ] - فهو ضعيف ، والعلم عند الله - تعالى - . انتهى منه .
وقد علمت مما ذكرنا فيه أن القول الأول هو الصحيح في معنى الآية .
مع أن كثيرا من الناس يظنون أن القول الثاني هو معنى الآية ، فيحسبون أن معنى إلا المودة في القربى إلا أن تودوني في أهل قرابتي .
وممن ظن ذلك محمد السجاد ; حيث قال لقاتله يوم الجمل : أذكرك " حم " يعني سورة " الشورى " هذه ، ومراده أنه من أهل قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيلزم حفظه فيهم ; لأن الله - تعالى - قال في " حم " هذه : إلا المودة في القربى فهو يريد المعنى المذكور ، يظنه هو المراد بالآية ، ولذا قال قاتله في ذلك :
يذكرني حاميم والرمح شاجر فهلا تلا حاميم قبل التقدم
وقد ذكرنا هذا البيت والأبيات التي قبله في أول سورة " هود " ، وذكرنا أن ذكر البيت المذكور في سورة " المؤمن " ، وذكرنا الخلاف في قائل الأبيات الذي قتل البخاري محمدا السجاد بن طلحة بن عبيد الله يوم الجمل ، هل هو شريح بن أبي أوفى العبسي ، كما قال ، أو البخاري ، أو الأشتر النخعي عصام بن مقشعر ، أو مدلج بن كعب السعدي ، أو كعب بن مدلج .
وممن ظن أن معنى الآية هو ما ظنه محمد السجاد المذكور - الكميت في قوله في أهل قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
وجدنا لكم في آل حاميم آية تأولها منا تقي ومعرب