قسم بمخلوقات عظيمة دالة على عظيم علم الله تعالى وقدرته .
والمقصود من هذا القسم تأكيد الخبر ، وفي تطويل القسم تشويق السامع لتلقي المقسم عليه .
فيجوز أن يكون المراد بموصوفات هذه الصفات نوعا واحدا ، ويجوز أن يكون نوعين أو أكثر من المخلوقات العظيمة . ومشى صاحب الكشاف على أن المقسم بها كلهم ملائكة .
ولم يختلف أهل التأويل أن ( الملقيات ذكرا ) للملائكة .
[ ص: 420 ] وقال الجمهور : العاصفات : الرياح ولم يحك فيه مخالفا . وقال الطبري القرطبي : قيل العاصفات الملائكة .
و ( الفارقات ) لم يحك إلا أنهم الملائكة أو الرسل . وحكى الطبري القرطبي عن مجاهد : أنها الرياح .
وفيما عدا هذه من الصفات اختلف المتأولون فمنهم من حملوها على أنها الملائكة ومنهم من حمل على أنها الرياح .
فالمرسلات قال ابن مسعود وأبو هريرة ومقاتل وأبو صالح والكلبي ومسروق : هي الملائكة . وقال ابن عباس وقتادة : هي الرياح ، ونقل هذا عن أيضا ولعله يجيز التأويلين وهو الأوفق بعطفها بالفاء . ابن مسعود
والناشرات قال والضحاك وأبو صالح : الملائكة . وقال ابن عباس ابن مسعود ومجاهد : الرياح وهو عن أبي صالح أيضا .
ويتحصل من هذا أن الله أقسم بجنسين من مخلوقاته العظيمة مثل قوله ( والسماء ذات البروج واليوم الموعود ) ، ومثله تكرر في القرآن .
ويتجه في توزيعها أن الصفات التي عطفت بالفاء تابعة لجنس ما عطفت هي عليه ، والتي عطفت بالواو يترجح أنها صفات جنس آخر .
فالأرجح أن المرسلات والعاصفات صفتان للرياح ، وأن ما بعدها صفات للملائكة ، والواو الثانية للعطف وليست حرف قسم . ومناسبة الجمع بين هذين الجنسين في القسم أن كليهما من الموجودات العلوية لأن الأصل في العطف بالواو أن يكون المعطوف بها ذاتا غير المعطوف عليه . وما جاء بخلاف ذلك فهو خلاف الأصل مثل قول الشاعر أنشده الفراء .
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
أراد صفات ممدوح واحد .ولنتكلم على هذه الصفات :
فأما المرسلات فإذا جعل وصفا للملائكة كان المعني بهم المرسلين إلى الرسل [ ص: 421 ] والأنبياء مثل جبريل في إرساله بالوحي وغيره من الملائكة الذين يبعثهم الله إلى بعض أنبيائه بتعليم أو خبر أو نصر كما في قوله تعالى عن زكرياء ( فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب ) الآية ، أو المرسلات بتنفيذ أمر الله في العذاب مثل المرسلين إلى قوم لوط ، و ( عرفا ) حال مفيدة معنى التشبيه البليغ ، أي مثل عرف الفرس في تتابع الشعر بعضه ببعض ، يقال : هم كعرف الضبع ، إذا تألبوا ، ويقال : جاءوا عرفا واحدا . وهو صالح لوصف الملائكة ولوصف الريح .
وفسر عرفا بأنه اسم ، أي الشعر الذي على رقبة الفرس ونصبه على الحال على طريقة التشبيه البليغ أي كالعرف في تتابع البعض لبعض وفسر بأنه مصدر بمعنى المفعول ، أي معروف ( ضد المنكر ) ، وأن نصبه على المفعول لأجله ، أي لأجل الإرشاد والصلاح .
( فالعاصفات ) تفريع على المرسلات ، أي ترسل فتعصف ، والعصف يطلق على قوة هبوب الريح فإن أريد بالمرسلات وصف الرياح فالعصف حقيقة وإن أريد بالمرسلات وصف الملائكة فالعصف تشبيه لنزولهم في السرعة بشدة الريح وذلك في المبادرة في سرعة الوصول بتنفيذ ما أمروا به .
و ( عصفا ) مؤكد للوصف تأكيدا لتحقيق الوصف ، إذ لا داعي لإرادة رفع احتمال المجاز .
والنشر : حقيقته ضد الطي ويكثر استعماله مجازا في الإظهار والإيضاح وفي الإخراج .
فالناشرات إذا جعل وصفا للملائكة جاز أن يكون نشرهم الوحي أي تكرير نزولهم لذلك ، وأن يكون النشر كناية عن الوضوح ، أي بالشرائع البينة .
وإذ جعل وصفا للرياح فهو نشر السحاب في الأجواء فيكون عطفه بالواو دون الفاء للتنبيه على أنه معطوف على المرسلات لا على العاصفات لأن العصف حالة مضرة والنشر حالة نفع .
والقول في تأكيد " نشرا " وتنوينه كالقول في عصفا .
والفرق : التمييز بين الأشياء ، فإذا كان وصفا للملائكة فهو صالح للفرق [ ص: 422 ] الحقيقي مثل تمييز أهل الجنة عن أهل النار يوم الحساب ، وتمييز الأمم المعذبة في الدنيا عن الذين نجاهم الله من العذاب ، مثل قوم نوح عن نوح ، وعاد عن هود ، وقوم لوط عن لوط وأهله عدا امرأته ، وصالح للفرق المجازي ، وهو أنهم يأتون بالوحي الذي يفرق بين الحق والباطل ، وبين الإيمان والكفر .
وإن جعل وصفا للرياح فهو من آثار النشر ، أي فرقها جماعات السحب على البلاد .
ولتفرع الفرق بمعنييه عن النشر بمعانيه عطف الفارقات على الناشرات بالفاء .
وأكد بالمفعول المطلق كما أكد ما قبله بقوله " عصفا " و " نشرا " ، وتنوينه كذلك .
والملقيات : الملائكة الذين يبلغون الوحي وهو الذكر .
والإلقاء مستعار لتبليغ الذكر من العالم العلوي إلى أهل الأرض بتشبيهه بإلقاء شيء من اليد إلى الأرض .
وإلقاء الذكر تبليغ المواعظ إلى الرسل ليبلغوها إلى الناس وهذا الإلقاء متفرع على الفرق لأنهم يخصون كل ذكر بمن هو محتاج إليه ، فذكر الكفار بالتهديد والوعيد بالعذاب ، وذكر المؤمنين بالثناء والوعد بالنعيم .
وهذا معنى ( عذرا أو نذرا ) . فالعذر : الإعلام بقبول إيمان المؤمنين بعد الكفر ، وتوبة التائبين بعد الذنب .
والنذر : اسم مصدر أنذر ، إذا حذر .
و " عذرا " قرأه الجمهور بسكون الذال ، وقرأه روح عن يعقوب بضمها على الاتباع لحركة العين .
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب ( نذرا ) بضم الذال وهو الغالب فيه .
وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بإسكان الذال على [ ص: 423 ] الوجهين المذكورين في ( عذرا ) ، وعلى كلتا القراءتين فهو اسم مصدر بمعنى الإنذار .
وانتصب ( عذرا أو نذرا ) على بدل الاشتمال من ( ذكرا ) . و ( أو ) في قوله ( أو نذرا ) للتقسيم .
وجملة ( إنما توعدون لواقع ) جواب القسم وزيدت تأكيدا بأن لتقوية تحقيق وقوع الجواب .
و ( إنما ) كلمتان هما ( إن ) التي هي حرف تأكيد و ( ما ) الموصولة وليست هي ( إنما ) التي هي أداة حصر ، والتي ( ما ) فيها زائدة . وقد كتبت هذه متصلة ( إن ) بـ ( ما ) لأنهم لم يكونوا يفرقون في الرسم بين الحالتين ، والرسم اصطلاح ، ورسم المصحف سنة في المصاحف ونحن نكتبها مفصولة في التفسير وغيره .
و ( ما توعدون ) : هو البعث للجزاء وهم يعلمون الصلة فلذلك جيء في التعبير عنه بالموصولية .
والخطاب للمشركين ، أي ما توعدكم الله به من العقاب بعد البعث واقع لا محالة وإن شككتم فيه أو نفيتموه .
والواقع : الثابت : وأصل الواقع الساقط على الأرض فاستعير للشيء المحقق تشبيها بالمستقر .