والقلم المقسم به قيل هو ما يكنى عنه بالقلم من تعلق علم الله بالموجودات الكائنة والتي ستكون ، أو هو كائن غيبي لا يعلمه إلا الله . وعن مجاهد وقتادة : أنه القلم الذي في قوله تعالى الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم . قلت : وهذا هو المناسب لقوله وما يسطرون في الظاهر وهو الذي يقتضيه حال المشركين المقصودين بالخطاب الذين لا يعرفوا إلا القلم الذي هو آلة الكتابة عند أهل الكتاب وعند الذين يعرفون الكتابة من العرب .
ومن فوائد هذا القسم أن هذا القرآن كتاب الإسلام ، وأنه سيكون مكتوبا مقروءا بين المسلمين ، ولهذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر أصحابه بكتابة ما يوحى به إليه . وتعريف ( القلم ) تعريف الجنس .
بأنه يكتب به القرآن وكتبت به الكتب المقدسة وتكتب به كتب التربية ومكارم الأخلاق والعلوم وكل ذلك مما له حظ شرف عند الله تعالى . فالقسم بالقلم لشرفه
وهذا يرجحه أن الله نوه بالقلم في أول سورة نزلت من القرآن لقوله اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم .
و ( ما يسطرون ) هي السطور المكتوبة بالقلم و ( ما ) يجوز أن تكون موصولة ، أي وما يكتبونه من الصحف ، ويجوز أن تكون مصدرية . والمعنى : وسطرهم الكتابة سطورا .
ويجوز أن يكون قسما بالأقلام التي يكتب بها كتاب الوحي القرآن ، ( وما يسطرون ) قسما بكتابتهم ، فيكون قسما بالقرآن على أن القرآن ما هو بكلام مجنون [ ص: 61 ] كما تقدم في قوله تعالى والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا في سورة الزخرف . وتنظيره بقول أبي تمام : وثناياك إنها إغريض . . . البيت . ويسطرون : مضارع سطر ، يقال : سطر من باب نصر ، إذا كتب كلمات عدة تحصل منها صفوف من الكتابة . وأصله مشتق من السطر وهو القطع ؛ لأن صفوف الكتابة تبدو كأنها قطع .
وضمير ( يسطرون ) راجع إلى غير مذكور في الكلام وهو معلوم للسامعين ؛ لأن ذكر القلم ينبئ بكتبة يكتبون به فكان لفظ القسم متعلقا بآلة الكتابة والكتابة ، والمقصود : المكتوب في إطلاق المصدر على المفعول . فهو بمنزلة الفعل المبني للمجهول ؛ لأن الساطرين غير معلومين ، فكأنه قيل : والمسطور ، نظير قوله تعالى وكتاب مسطور في رق منشور .
ومن فسر ( القلم ) بمعنى تعلق علم الله تعالى بما سيكون جعل ضمير ( يسطرون ) راجعا إلى الملائكة فيكون السطر رمزا لتنفيذ الملائكة ما أمر الله بتنفيذه حين تلقي ذلك ، أي يكتبون ذلك للعمل به أو لإبلاغه من بعضهم إلى بعض على وجه لا يقبل الزيادة ولا النقصان ، فشبه ذلك الضبط بضبط الكاتب ما يريد إبلاغه بدون تغيير .
وأوثر للإيماء إلى أن باعث الطاعنين على الرسول - صلى الله عليه وسلم - واللامزين له بالجنون ، إنما هو ما أتاهم به من الكتاب . القسم بالقلم والكتابة
والمقسم عليه نفي أن يكون النبيء - صلى الله عليه وسلم - مجنونا والخطاب له بهذا تسلية له لئلا يحزنه قول المشركين لما دعاهم إلى الإسلام : هو مجنون ، وذلك ما شافهوا به النبيء - صلى الله عليه وسلم - وحكاه الله عنهم في آخر السورة وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون . وهكذا كل ما ورد فيه نفي صفة الجنون عنه فإنما هو رد على أقوال المشركين كقوله وما صاحبكم بمجنون . وقد زل فيه صاحب الكشاف زلة لا تليق بعلمه .
والمقصود من نفي الجنون عنه إثبات ما قصد المشركون نفيه وهو أن يكون [ ص: 62 ] رسولا من الله لأنهم لما نفوا عنه صفة الرسالة وضعوا موضعها صفة الجنون ، فإذا نفي ما زعموه فقد ثبت ما ادعاه .
وقد أجيب قولهم وتأكيدهم ذلك بحرف ( إن ) ولام الابتداء إذ قالوا إنه لمجنون بمؤكدات أقوى مما في كلامهم إذ أقسم عليه وجيء بعد النفي بالباء التي تزاد بعد النفي لتأكيده ، وبالجملة الاسمية منفية لدلالة الجملة الاسمية على ثبات الخبر ، أي تحققه فهذه ثلاثة مؤكدات .
وقوله بنعمة ربك جعله في الكشاف حالا من الضمير الذي في ( مجنون ) المنفي . والتقدير : انتفى وصف المجنون بنعمة ربك عليك . والباء للملابسة أو السببية ، أي بسبب إنعام الله إذ برأك من النقائص . والذي أرى أن تكون جملة معترضة ، وأن الباء متعلقة بمحذوف يدل عليه المقام وتقديره : أن ذلك بنعمة ربك ، على نحو ما قيل في تعلق الباء في قوله ( باسم الله ) وهو الذي يقتضيه استعمالهم كقول الحماسي الفضل بن عباس اللهبي :
كل له نية في بغض صاحبه بنعمة الله نقليكم وتقلـونـا
وذهب في أماليه أن ( ابن الحاجب بنعمة ربك ) متعلق بما يتضمنه حرف ( ما ) النافية من معنى الفعل وقدره : انتفى أن تكون مجنونا بنعمة ربك . ولا يصح تعلقه بقوله ( مجنون ) إذ لو علق به لأوهم نفي جنون خاص وهو الجنون الذي يكون من نعمة الله وليس ذلك بمستقيم . واستحسن هذا ابن هشام في مغني اللبيب في الباب الثالث لولا أنه مخالف لاتفاق النحاة على عدم صحة تعلق الظرف بالحرف ولم يخالفهم في ذلك إلا أبو علي وأبو الفتح في خصوص تعلق المجرور والظرف بمعنى الحرف النائب عن فعل مثل حرف النداء في قولك : يا لزيد يريد في الاستغاثة ، وتقدم نظيره في قوله فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون في سورة الطور .ولما ثبت الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - فدفع بهتان أعدائه أعقبه بإكرامه بأجر عظيم على ما لقيه من المشركين من أذى بقوله وإن لك لأجرا غير ممنون بقرينة وقوعه عقب قوله ما أنت بنعمة ربك بمجنون ، مؤكدا ذلك بحرف ( إن ) وبلام الابتداء وبتقديم المجرور وهو في قوله لك .
[ ص: 63 ] وهذا الأجر هو ثواب الله في الآخرة وعناية الله به ونصره في الدنيا .
و ( ممنون ) يجوز أن يكون مشتقا من من المعطي على المعطى إذا عد عليه عطاءه وذكره له ، أو افتخر عليه به فإن ذلك يسوء المعطى ، قال النابغة :
علي لعمرو نعمة بعد نعمة لوالده ليست بذات عقارب
وقد انتزع من هذه الآية عبد الله بن الزبير بكسر الموحدة أو غيره في قوله :
أيادي لم تمنن وإن هي جلت
قبله :سأشكر عمرا إن تراخت منيتي
ومراده المعروف عمرو بن سعيد بالأشدق . ويجوز أن يكون ( ممنون ) مشتقا من قولهم : من الحبل ، إذا قطعه ، أي أجرا غير مقطوع عنك ، وهو الثواب المتزايد كل يوم ، أو أجرا أبديا في الآخرة ، ولهذا كان لإيثار كلمة ( ممنون ) هنا من الإيجاز بجمع معنيين بخلاف قوله عطاء غير مجذوذ في سورة هود ؛ لأن ما هنا تكرمة للرسول - صلى الله عليه وسلم - .وبعد أن آنس نفس رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالوعد عاد إلى تسفيه قول الأعداء فحقق أنه متلبس بخلق عظيم وذلك ضد الجنون مؤكدا ذلك بثلاثة مؤكدات مثل ما في الجملة قبله .
والخلق : طباع النفس ، وأكثر إطلاقه على طباع الخير إذا لم تتبع بنعت ، وقد تقدم عند قوله تعالى إن هذا إلا خلق الأولين في سورة الشعراء .
والعظيم : الرفيع القدر وهو مستعار من ضخامة الجسم ، وشاعت هذه الاستعارة حتى ساوت الحقيقة .
و ( على ) للاستعلاء المجازي المراد به التمكن كقوله أولئك على هدى من ربهم ومنه قوله تعالى إنك على الحق المبين ، إنك على صراط مستقيم ، إنك لعلى هدى مستقيم .
[ ص: 64 ] وفي حديث عائشة أنها - فقالت : كان خلقه القرآن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم أي ما تضمنه القرآن من إيقاع الفضائل والمكارم والنهي عن أضدادها . سئلت عن
والخلق العظيم : هو الخلق الأكرم في نوع الأخلاق وهو البالغ أشد الكمال المحمود في طبع الإنسان لاجتماع مكارم الأخلاق في النبيء - صلى الله عليه وسلم - فهو حسن معاملته الناس إلى اختلاف الأحوال المقتضية لحسن المعاملة ، فالخلق العظيم أرفع من مطلق الخلق الحسن .
ولهذا قالت عائشة كان خلقه القرآن ، ألست تقرأ قد أفلح المؤمنون الآيات العشر . وعن علي الخلق العظيم : هو أدب القرآن ويشمل ذلك كل ما وصف به القرآن محامد الأخلاق وما وصف به النبيء - صلى الله عليه وسلم - من نحو قوله فبما رحمة من الله لنت لهم وقوله خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وغير ذلك من آيات القرآن . وما أخذ به من الأدب بطريق الوحي غير القرآن قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فجعل أصل شريعته إكمال ما يحتاجه البشر من مكارم الأخلاق في نفوسهم ، ولا شك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أكبر مظهر لما في شرعه قال تعالى إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها وأمره أن يقول وأنا أول المسلمين .
فكما جعل الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - على خلق عظيم جعل شريعته لحمل الناس على التخلق بالخلق العظيم بمنتهى الاستطاعة .
وبهذا يزداد وضوحا معنى التمكن الذي أفاده حرف الاستعلاء في قوله وإنك لعلى خلق عظيم فهو متمكن منه الخلق العظيم في نفسه ، ومتمكن منه في دعوته الدينية .
واعلم أن جماع الخلق العظيم الذي هو أعلى الخلق الحسن هو التدين ، ومعرفة الحقائق ، وحلم النفس ، والعدل ، والصبر على المتاعب ، والاعتراف للمحسن ، والتواضع ، والزهد ، والعفة ، والعفو ، والجمود ، والحياء ، والشجاعة ، وحسن الصمت ، والتؤدة ، والوقار ، والرحمة ، وحسن المعاملة والمعاشرة .
والأخلاق كامنة في النفس ومظاهرها تصرفات صاحبها في كلامه ، وطلاقة [ ص: 65 ] وجهه ، وثباته ، وحكمه ، وحركته وسكونه ، وطعامه وشرابه ، وتأديب أهله ، ومن لنظره ، وما يترتب على ذلك من حرمته عند الناس ، وحسن الثناء عليه والسمعة .
وأما مظاهرها في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففي ذلك كله وفي سياسيته أمته ، وفيما خص به من فصاحة كلامه وجوامع كلمه .