أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم .
هذه الجملة وما ألحق بها من الجمل إلى قوله ( وكأين من قرية عتت ) إلخ .
تشريع مستأنف فيه بيان لما أجمل في الآيات السابقة من قوله ( لا تخرجوهن من بيوتهن ) وقوله ( أو فارقوهن بمعروف ) ، وقوله ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) فتتنزل هذه الجمل من اللاتي قبلها منزلة البيان لبعض ، ويدل الاشتمال لبعض وكل ذلك مقتضى للفصل . وابتدئ ببيان ما في ( لا تخرجوهن من بيوتهن ) من إجمال .
والضمير المنصوب في ( أسكنوهن ) عائد إلى النساء المطلقات في قوله ( إذا طلقتم ) . وليس فيما تقدم من الكلام ما يصلح لأن يعود عليه هذا الضمير إلا لفظ النساء وإلا لفظ ( أولات الأحمال ) ، ولكن لم يقل أحد بأن الإسكان خاص بالمعتدات الحوامل فإنه ينافي قوله تعالى ( لا تخرجوهن ) فتعين عود الضمير إلى النساء المطلقات كلهن ، وبذلك يشمل المطلقة الرجعية والبائنة والحامل ، لما علمته في أول السورة من إرادة الرجعية والبائنة من لفظ ( إذا طلقتم النساء ) .
وجمهور أهل العلم قائلون بوجوب السكنى لهن جميعا . قال أشهب : قال مالك يخرج عنها إذا طلقها وتبقى هي في المنزل . وروى ابن نافع قال مالك : فأما التي لم تبن فإنها زوجة يتوارثان والسكنى لهن لازمة لأزواجهن اهـ . يريد أنها مستغنى عن أخذ حكم سكناها من هذه الآية . ولا يريد أنها مستثناة من حكم الآية . وقال قتادة وابن أبي ليلى وإسحاق وأبو ثور : لا سكنى للمطلقة طلاقا بائنا . ومتمسكهم في ذلك ما روته وأحمد بن حنبل : فاطمة بنت قيس السكنى والنفقة على من له عليها الرجعة . وهو حديث غريب لم يعرفه أحد إلا من رواية أن زوجها طلقها ثلاثا وأن أخا زوجها منعها من السكنى والنفقة ، وأنها رفعت أمرها إلى [ ص: 326 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لها : إنما . ولم يقبله فاطمة بنت قيس . فقال : لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها نسيت أو شبه عليها . وأنكرته عمر بن الخطاب عائشة على فيما ذكرته من أنه أذن لها في الانتقال إلى مكان غير الذي طلقت فيه كما تقدم . فاطمة بنت قيس
وروي أن عمر روى عن النبيء - صلى الله عليه وسلم - . ورووا أن أن للمطلقة البائنة سكنى قتادة أخذا بقوله تعالى ( وابن أبي ليلى لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ) إذ الأمر هو المراجعة ، فقصرا الطلاق في قوله ( إذا طلقتم النساء ) ، على الطلاق الرجعي لأن البائن لا تترقب بعده مراجعة وسبقها إلى هذا المأخذ المذكورة . فاطمة بنت قيس
روى مسلم أن أرسل إلى مروان بن الحكم يسألها عن الحديث فحدثته فقال فاطمة بنت قيس مروان : لم نسمع هذا الحديث إلا من المرأة سنأخذ بالعصمة التي وجدنا عليها الناس فبلغ قول مروان فقالت : بيني وبينكم القرآن ، قال الله عز وجل ( فاطمة بنت قيس لا تخرجوهن من بيوتهن ) ، إلى قوله ( لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ) . قالت : هذا لمن كانت له رجعة فأي أمر يحدث بعد الثلاث اهـ .
ويرد على ذلك أن إحداث الأمر ليس قاصرا على المراجعة فإن من الأمر الذي يحدثه الله أن يرقق قلوبهما فيرغبا معا في إعادة المعاشرة بعقد جديد . وعلى تسليم اقتصار ذلك على إحداث أمر المراجعة فذكر هذه الحكمة لا يقتضي تخصيص عموم اللفظ الذي قبلها إذ يكفي أن تكون حكمة لبعض أحوال العام . فالصواب أن حق السكنى للمطلقات كلهن ، وهو قول جمهور العلماء .
وقوله ( من حيث سكنتم ) ، أي في البيوت التي تسكنونها ، أي لا يكلف المطلق بمكان للمطلقة غير بيته ولا يمنعها السكنى ببيته . وهذا تأكيد لقوله ( لا تخرجوهن من بيوتهن ) .
[ ص: 327 ] فإذا كان المسكن لا يسع مبيتين متفرقين خرج المطلق منه وبقيت المطلقة ، كما تقدم فيما رواه أشهب عن مالك .
و ( من ) الواقعة في قوله ( من حيث سكنتم ) للتبعيض ، أي في بعض ما سكنتم ويؤخذ منه أن المسكن صالح للتبعيض بحسب عرف السكنى مع تجنب التقارب في المبيت إن كانت غير رجعية ، فيؤخذ منه أنه إن لم يسعهما خرج الزوج المطلق .
و ( من ) في قوله ( من وجدكم ) بدل مطابق ، وهو بيان لقوله ( من حيث سكنتم ) فإن مسكن المرء هو وجده الذي وجده غالبا لمن لم يكن مقترا على نفسه .
والوجد : مثلث الواو هو الوسع والطاقة . وقرأه الجمهور بضم الواو . وقرأه روح عن يعقوب بكسرها .