انتقال من الامتنان على المسلمين بما يسر الله من بني النضير بدون قتال ، وما أفاء الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - منهم ، ووصف ما جرى من خيبتهم وخيبة أملهم في نصرة المنافقين ، ومن الإيذان بأن عاقبة أهل القرى الباقية كعاقبة أسلافهم . وكذلك موقف أنصارهم معهم إلى الأمر بتقوى الله شكرا له على ما منح وما وعد من صادق الوعد فإن فتح قرية إذ لا يستطيع جزاء غير ذلك فأقبل على خطاب الذين آمنوا بالأمر بتقوى الله . الشكر جزاء العبد عن نعمة ربه
ولما كان ما تضمنته السورة من تأييد الله إياهم وفيض نعمه عليهم كان من منافع الدنيا ، أعقبه بتذكيرهم بالإعداد للآخرة بقوله ولتنظر نفس ما قدمت لغد أي . لتتأمل كل نفس فيما قدمته للآخرة
وجملة ولتنظر نفس ما قدمت لغد عطف أمر على أمر آخر . وهي معترضة بين جملة ( اتقوا الله ) وجملة إن الله خبير بما تعملون . وذكر [ ص: 111 ] ( نفس ) إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر : وانظروا ما قدمتم ، فعدل عن الإظهار لقصد العموم أي لتنظروا وتنظر كل نفس .
وتنكير نفس يفيد العموم في سياق الأمر ، أي لتنظر كل نفس ، فإن الأمر والدعاء ونحوهما كالشرط تكون النكرة في سياقها مثل ما هي في سياق النفي كقوله تعالى وإن أحد من المشركين استجارك فأجره وكقول الحريري :
يا أهل ذا المغنى وقيتم ضرا
أي ( كل ضر ) وإنما لم يعرف بلام التعريف على العموم لئلا يتوهم نفس معهودة .وأطلق ( غد ) على الزمن المستقبل مجازا لتقريب الزمن المستقبل من البعيد لملازمة اقتراب الزمن لمفهوم الغد ، لأن الغد هو اليوم الموالي لليوم الذي فيه المتكلم فهو أقرب أزمنة المستقبل كما قال قراد بن أجدع : فإن يك صدر هذا اليوم ولى فإن غدا لناظره قريب
وهذا المجاز شائع في كلام العرب في لفظ غد وأخواته قال زهير :
وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عم
وتنكير غد للتعظيم والتهويل ، أي لغد لا يعرف كنهه .
واللام في قوله ( لغد ) لام العلة ، أي ما قدمته لأجل يوم القيامة ، أي لأجل الانتفاع به .
والتقديم : مستعار للعمل الذي يعمل لتحصيل فائدته في زمن آت شبه قصد الانتفاع به في المستقبل بتقديم من يحل في المنزل قبل ورود السائرين إليه من جيش أو سفر ليهيء لهم ما يصلح أمرهم ، ومنه مقدمة الجيش وتقديم الرائد قبل القافلة . قال تعالى : وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ويقال في ضده : أخر ، إذا ترك عمل شيء قال تعالى : علمت نفس ما قدمت وأخرت .
[ ص: 112 ] وإعادة ( واتقو الله ) ليبني عليه إن الله خبير بما تعملون فيحصل الربط بين التعليل والمعلل إذ وقع بينهما فصل ولتنظر نفس ما قدمت لغد وإنما أعيد بطريق العطف لزيادة التأكيد فإن التوكيد اللفظي يؤتى به تارة معطوفا كقوله تعالى : أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى وقوله كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون . وقول . عدي بن زيد
وألفى قولها كذبا ومينا .
وذلك أن في العطف إيهام أن يكون التوكيد يجعل كالتأسيس لزيادة الاهتمام بالمؤكد .
فجملة إن الله خبير بما تعملون تعليل للحث على تقوى الله وموقع ( إن ) فيها موقع التعليل .
ويجوز أن يكون ( اتقوا الله ) المذكور أولا مرادا به بمعنى الخوف من الله وهي الباعثة على العمل ولذلك أردف بقوله التقوى ولتنظر نفس ما قدمت لغد ويكون ( اتقوا الله ) المذكور ثانيا مرادا به الدوام على التقوى الأولى ، أي ودوموا على التقوى على حد قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله ولذلك أردف بقوله إن الله خبير بما تعملون أي بمقدار اجتهادكم في التقوى ، وأردف بقوله ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أي أهملوا التقوى بعد أن تقلدوها كما سيأتي أنهم المنافقون فإنهم تقلدوا الإسلام وأضاعوه قال تعالى : نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون . وفي قوله إن الله خبير بما تعملون إظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار ، فتكون الجملة مستقلة بدلالتها أتم استقلال فتجري مجرى الأمثال ولتربية المهابة في نفس المخاطبين .