وابتدئت الجملة باسم الجلالة للغرض الذي شرحناه عند قوله تعالى والله أنزل من السماء ماء ، وأما إعادة اسم الجلالة هنا دون الإضمار ; فلأن مقام الاستدلال يقتضي تكرير اسم المستدل بفتح الدال على إثبات صفاته تصريحا واضحا .
وجيء بالمسند فعليا لإفادة تخصيص المسند إليه بالمسند الفعلي في الإثبات ، نحو : أنا سعيت في حاجتك ، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى والله أنزل من السماء ماء ، فهذه عبرة ، وهي أيضا منة ; لأن الخلق وهو الإيجاد نعمة لشرف الوجود والإنسانية ، وفي التوفي أيضا نعم على المتوفي ; لأن به تندفع آلام الهرم ، ونعم على نوعه إذ به ينتظم حال أفراد النوع الباقين بعد ذهاب من قبلهم ، وهذا كله بحسب الغالب فردا ونوعا ، والله يخص بنعمته وبمقدارها من يشاء .
ولما قوبل ( ثم يتوفاكم ) بقوله تعالى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر علم أن المعنى ( ثم يتوفاكم ) في إبان الوفاة ، وهو السن المعتادة الغالبة ; لأن الوصول إلى أرذل العمر نادر .
والأرذل : تفضيل في الرذالة ، وهي الرداءة في صفات الاستياء .
[ ص: 212 ] والعمر : مدة البقاء في الحياة ; لأنه مشتق من العمر ، وهو شغل المكان ، أي عمر الأرض ، قال تعالى وأثاروا الأرض وعمروها ، فإضافة ( أرذل ) إلى العمر التي هي من إضافة الصفة إلى الموصوف على طريقة المجاز العقلي ; لأن الموصوف بالأرذل حقيقة هو حال الإنسان في عمره لا نفس العمر ، فأرذل العمر هو حال هرم البدن ، وضعف العقل ، وهو حال في مدة العمر ، وأما نفس مدة العمر فهي هي ، لا توصف برذالة ولا شرف .
والهرم لا ينضبط حصوله بعدد من السنين ; لأنه يختلف باختلاف الأبدان والبلدان والصحة والاعتلال على تفاوت الأمزجة المعتدلة ، وهذه الرذالة رذالة في الصحة لا تعلق لها بحالة النفس ، فهي مما يعرض للمسلم والكافر فتسمى أرذل العمر فيهما ، وقد . استعاذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أن يرد إلى أرذل العمر
ولام التعليل الداخلة على ( كي ) المصدرية مستعملة في معنى الصيرورة والعاقبة ; تشبيها للصيرورة بالعلة استعارة تشير إلى أنه لا غاية للمرء في ذلك التعمير تعريضا بالناس ، إذ يرغبون في طول الحياة ، وتنبيها على وجوب الإقصار من تلك الرغبة ، كأنه قيل : منكم من يرد إلى أرذل العمر ; ليصير غير قابل لعلم ما لم يعلمه ; لأنه يبطئ قبوله للعلم ، وربما لم يتصور ما يتلقاه ثم يسرع إليه النسيان ، والإنسان يكره حالة انحطاط علمه ; لأنه يصير شبيها بالعجماوات .
واستعارة حرف العلة إلى معنى العاقبة مستعملة في الكلام البليغ في مقام التوبيخ أو التخطئة أو نحو ذلك ، وتقدم عند قوله تعالى إنما نملي لهم ليزدادوا إثما في سورة آل عمران ، وقد تقدم القول قريبا في ذلك عند قوله تعالى إذا فريق منكم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم في هذه السورة .
وتنكير ( علم ) تنكير الجنس ، والمعنى : لكيلا يعلم شيئا بعد أن كان له علم ، أي ليزول منه قبول العلم .
[ ص: 213 ] وجملة ( إن الله عليم قدير ) تذييل تنبيها على أن المقصود من الجملة الدلالة على عظم قدرة الله وعظم علمه ، وقدم وصف العليم ; لأن القدرة تتعلق على وفق العلم ، وبمقدار سعة العلم يكون عظم القدرة ، فضعيف القدرة يناله تعب من قوة علمه ; لأن همته تدعوه إلى ما ليس بالنائل ، كما قال أبو الطيب :
وإذا كانت النفوس كبـارا تعبت في مرادها الأجسام