خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين استئناف بياني أيضا ، وهو استدلال آخر على انفراده تعالى بالإلهية ووحدانيته فيها ، وذلك أنه بعد أن استدل عليهم بخلق العوالم العليا والسفلى - وهي مشاهدة لديهم - انتقل إلى الاستدلال عليهم بخلق أنفسهم المعلوم لهم ، وأيضا لما استدل على وحدانيته بخلق أعظم الأشياء المعلومة لهم استدل عليهم أيضا بخلق أعجب الأشياء للمتأمل وهو الإنسان في طرفي أطواره ; من كونه نطفة مهينة إلى كونه عاقلا فصيحا مبينا بمقاصده وعلومه .
وتعريف الإنسان للعهد الذهني ، وهو تعريف الجنس ، أي خلق الجنس المعلوم الذي تدعونه بالإنسان .
وقد ذكر للاعتبار بخلق الإنسان ثلاثة اعتبارات : جنسه المعلوم بماهيته وخواصه من الحيوانية والناطقية وحسن القوام ، وبقية أحوال كونه ، ومبدأ خلقه وهو النطفة التي هي أمهن شيء نشأ منها أشرف نوع ، ومنتهى ما شرفه به وهو العقل ، وذلك في جملتين وشبه جملة خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين .
والخصيم من صيغ المبالغة ، أي كثير الخصام .
و ( مبين ) خبر ثان عن ضمير ( فإذا هو ) ، أي فإذا هو متكلم مفصح عما في ضميره ومراده بالحق أو بالباطل والمنطيق بأنواع الحجة حتى السفسطة .
والمراد : الخصام في إثبات الشركاء ، وإبطال الوحدانية ، وتكذيب من يدعون إلى التوحيد ، كما دل عليه قوله تعالى في سورة يس [ ص: 103 ] أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم .
والإتيان بحرف ( إذا ) المفاجأة استعارة تبعية ، استعير الحرف الدال على معنى المفاجأة لمعنى ترتب الشيء على غير ما يظن أن يترتب عليه ، وهذا معنى لم يوضع له حرف ، ولا مفاجأة بالحقيقة هنا ; لأن الله لم يفجأه ذلك ولا فجأ أحدا ، ولكن المعنى أنه بحيث لو تدبر الناظر في خلق الإنسان لترقب منه الاعتراف بوحدانية خالقه وبقدرته على إعادة خلقه ، فإذا سمع منه الإشراك والمجادلة في إبطال الوحدانية ، وفي إنكار البعث كان كمن فجأه ذلك ، ولما كان حرف المفاجأة يدل على حصول الفجأة للمتكلم به تعين أن تكون المفاجأة استعارة تبعية .
فإقحام حرف المفاجأة جعل الكلام مفهما أمرين هما : التعجيب من تطور الإنسان من أمهن حالة إلى أبدع حالة ، وهي حالة الخصومة والإبانة الناشئتين عن التفكير والتعقل ، والدلالة على كفرانه النعمة ، وصرفه ما أنعم به عليه في عصيان المنعم عليه ، فالجملة في حد ذاتها تنويه ، وبضميمة حرف المفاجأة أدمجت مع التنويه التعجيب ، ولو قيل : فهو خصيم ، أو فكان خصيما لم يحصل هذا المعنى البليغ .