عوانة بن الحكم : عن لبطة بن الفرزدق ، عن أبيه قال : لقيت الحسين ، فقلت : القلوب معك ، والسيوف مع بني أمية .
ابن عيينة : عن لبطة ، عن أبيه قال : لقيني الحسين وهو خارج من مكة في جماعة عليهم يلامق الديباج ، فقال : ما وراءك ؟ قال : وكان في لسانه ثقل من برسام عرض له . وقيل : كان مع الحسين وجماعته اثنان وثلاثون فرسا .
وروى ابن سعد بأسانيده قالوا : وأخذ الحسين طريق العذيب حتى نزل قصر أبي مقاتل فخفق خفقة ، ثم استرجع ، وقال : رأيت كأن فارسا يسايرنا ، ويقول : القوم يسيرون ، والمنايا تسري إليهم . ثم نزل كربلاء ، فسار إليه عمر بن سعد كالمكره . إلى أن قال : وقتل أصحابه حوله ، وكانوا خمسين ، وتحول إليه من أولئك عشرون ، وبقي عامة نهاره لا يقدم عليه أحد ، وأحاطت به الرجالة ، وكان يشد عليهم ، فيهزمهم ، وهم يكرهون الإقدام عليه ، فصرخ بهم شمر ! ثكلتكم أمهاتكم ، ماذا تنتظرون [ ص: 299 ] به ؟ وطعنه سنان بن أنس النخعي في ترقوته ، ثم طعنه في صدره فخر ، واحتز رأسه خولي الأصبحي لا رضي الله عنهما .
ذكر ابن سعد بأسانيد له قالوا : قدم الحسين مسلما ، وأمره أن ينزل على هانئ بن عروة ، ويكتب إليه بخبر الناس ، فقدم الكوفة مستخفيا ، وأتته الشيعة ، فأخذ بيعتهم ، وكتب إلى الحسين : بايعني إلى الآن ثمانية عشر ألفا فعجل ، فليس دون الكوفة مانع ، فأغذ السير حتى انتهى إلى زبالة فجاءت رسل أهل الكوفة إليه بديوان فيه أسماء مائة ألف ، وكان على الكوفة النعمان بن بشير ، فخاف يزيد أن لا يقدم النعمان على الحسين .
فكتب إلى عبيد الله وهو على البصرة . فضم إليه الكوفة ، وقال له : إن كان لك جناحان ، فطر إلى الكوفة ! فبادر متعمما متنكرا ، ومر في السوق ، فلما رآه السفلة ، اشتدوا بين يديه : يظنونه الحسين ، وصاحوا : يا ابن رسول الله ، الحمد لله الذي أراناك ، وقبلوا يده ورجله ، فقال : ما أشد ما فسد هؤلاء . ثم دخل المسجد ، فصلى ركعتين ، وصعد المنبر ، وكشف لثامه ، وظفر برسول الحسين - وهو عبد الله بن بقطر - فقتله .
وقدم مع عبيد الله شريك بن الأعور - شيعي - فنزل على هانئ بن عروة ، فمرض ، فكان عبيد الله يعوده ، فهيئوا لعبيد الله ثلاثين رجلا ليغتالوه ، فلم يتم ذلك . وفهم عبيد الله ، فوثب وخرج ، فنم عليهم عبد لهانئ ، فبعث إلى هانئ - وهو شيخ - فقال : ما حملك على أن تجير عدوي ؟ قال : يا ابن أخي ، جاء حق هو أحق من حقك ، فوثب إليه عبيد الله بالعنزة حتى غرز رأسه بالحائط .
وبلغ الخبر مسلما ، فخرج في نحو الأربعمائة ، فما وصل إلى القصر إلا في نحو الستين ، وغربت الشمس فاقتتلوا ، وكثر عليهم أصحاب عبيد [ ص: 300 ] الله ، وجاء الليل ، فهرب مسلم ، فاستجار بامرأة من كندة ، ثم جيء به إلى عبيد الله فقتله ، فقال : دعني أوص . قال : نعم . فقال لعمر بن سعد : يا هذا ! إن لي إليك حاجة ، وليس هنا قرشي غيرك ، وهذا الحسين قد أظلك ، فأرسل إليه لينصرف ، فإن القوم قد غروه ، وكذبوه ، وعلي دين فاقضه عني ، ووار جثتي ، ففعل ذلك . وبعث رجلا على ناقة إلى الحسين ، فلقيه على أربع مراحل ، فقال له ابنه علي الأكبر : ارجع يا أبه فإنهم أهل العراق وغدرهم وقلة وفائهم . فقالت بنو عقيل : ليس بحين رجوع ، وحرضوه ، فقال حسين لأصحابه : قد ترون ما أتانا ، وما أرى القوم إلا سيخذلوننا ، فمن أحب أن يرجع ، فليرجع ، فانصرف عنه قوم .
وأما عبيد الله فجمع المقاتلة ، وبذل لهم المال ، وجهز عمر بن سعد في أربعة آلاف ، فأبى ، وكره قتال الحسين ، فقال : لئن لم تسر إليه لأعزلنك ، ولأهدمن دارك ، وأضرب عنقك . وكان الحسين في خمسين رجلا ، منهم تسعة عشر من أهل بيته . وقال الحسين : يا هؤلاء ، دعونا نرجع من حيث جئنا ، قالوا : لا . وبلغ ذلك عبيد الله ، فهم أن يخلي عنه ، وقال : والله ما عرض لشيء من عملي ، وما أراني إلا مخل سبيله يذهب حيث يشاء ، فقال شمر : إن فعلت ، وفاتك الرجل ، لا تستقيلها أبدا . فكتب إلى عمر
:
الآن حيث تعلقته حبالنا يرجو النجاة ولات حين مناص
فناهضه ، وقال لشمر : سر فإن قاتل عمر ، وإلا فاقتله ، وأنت على الناس . وضبط عبيد الله الجسر ، فمنع من يجوزه لما بلغه أن ناسا يتسللون إلى الحسين . [ ص: 301 ]
قال : فركب العسكر ، وحسين جالس ، فرآهم مقبلين ، فقال لأخيه عباس : القهم فسلهم : ما لهم ؟ فسألهم ، قالوا : أتانا كتاب الأمير يأمرنا أن نعرض عليك النزول على حكمه ، أو نناجزك . قال : انصرفوا عنا العشية حتى ننظر الليلة ، فانصرفوا .
وجمع حسين أصحابه ليلة عاشوراء ، فحمد الله ، وقال : إني لا أحسب القوم إلا مقاتليكم غدا ، وقد أذنت لكم جميعا ، فأنتم في حل مني ، وهذا الليل قد غشيكم ، فمن كانت له قوة ، فليضم إليه رجلا من أهل بيتي ، وتفرقوا في سوادكم ، فإنهم إنما يطلبونني ، فإذا رأوني ، لهوا عن طلبكم . فقال أهل بيته : لا أبقانا الله بعدك ، والله لا نفارقك . وقال أصحابه كذلك .
- الثوري : عن أبي الجحاف ، عن أبيه : أن رجلا قال للحسين : إن علي دينا . قال : لا يقاتل معي من عليه دين -
رجع الحديث إلى الأول :
فلما أصبحوا ، قال الحسين : اللهم أنت ثقتي في كل كرب ، ورجائي في كل شدة ، وأنت فيما نزل بي ثقة ، وأنت ولي كل نعمة ، وصاحب كل حسنة . وقال لعمر وجنده : لا تعجلوا ، والله ما أتيتكم حتى أتتني كتب أماثلكم بأن السنة قد أميتت ، والنفاق قد نجم ، والحدود قد عطلت ؛ فاقدم لعل الله يصلح بك الأمة . فأتيت ؛ فإذ كرهتم ذلك ، فأنا راجع ، فارجعوا إلى أنفسكم ؛ هل يصلح لكم قتلي ، أو يحل دمي ؟ ألست ابن بنت نبيكم وابن ابن عمه ؟ أو ليس حمزة والعباس وجعفر عمومتي ؟ ألم يبلغكم قول [ ص: 302 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وفي أخي : ؟ فقال هذان سيدا شباب أهل الجنة شمر : هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما يقول ، فقال عمر : لو كان أمرك إلي ، لأجبت . وقال الحسين : يا عمر ! ليكونن لما ترى يوم يسوءك . اللهم إن أهل العراق غروني ، وخدعوني ، وصنعوا بأخي ما صنعوا . اللهم شتت عليهم أمرهم ، وأحصهم عددا .
فكان أول من قاتل مولى لعبيد الله بن زياد ، فبرز له عبد الله بن تميم الكلبي ، فقتله ، والحسين جالس عليه جبة خز دكناء ، والنبل يقع حوله ، فوقعت نبلة في ولد له ابن ثلاث سنين ، فلبس لأمته ، وقاتل حوله أصحابه ، حتى قتلوا جميعا ، وحمل ولده علي يرتجز :
أنا نحن وبيت الله أولى بالنبي علي بن الحسين بن علي
فجاءته طعنة وعطش حسين فجاء رجل بماء ، فتناوله ، فرماه حصين بن تميم بسهم ، فوقع في فيه ، فجعل يتلقى الدم بيده ويحمد الله . وتوجه نحو المسناة يريد الفرات ، فحالوا بينه وبين الماء ، ورماه رجل بسهم ، فأثبته في حنكه ، وبقي عامة يومه لا يقدم عليه أحد ، حتى أحاطت به الرجالة ، وهو رابط الجأش ، يقاتل قتال الفارس الشجاع ، إن كان ليشد عليهم ، فينكشفون عنه انكشاف المعزى شد فيها الأسد ، حتى صاح بهم شمر : ثكلتكم أمهاتكم ! ماذا تنتظرون به ؟ فانتهى إليه زرعة التميمي ، فضرب كتفه ، وضربه الحسين على عاتقه ، فصرعه ، وبرز سنان النخعي ، فطعنه في ترقوته وفي صدره ، فخر ، ثم نزل ليحتز رأسه ، ونزل خولي الأصبحي ، فاحتز رأسه ، وأتى به عبيد الله بن زياد فلم يعطه شيئا .
قال : ووجد بالحسين ثلاث وثلاثون جراحة ، وقتل من جيش عمر بن [ ص: 303 ] سعد ثمانية وثمانون نفسا .