الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة كانت وفاة المهلب بن أبي صفرة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وهو المهلب بن أبي صفرة ظالم ، أبو سعيد الأزدي ، أحد أشراف أهل البصرة ، ووجوههم ودهاتهم وأجوادهم وكرمائهم ، ولد عام الفتح ، وكانوا ينزلون فيما بين عمان والبحرين ، وقد ارتد قومه فقاتلهم عكرمة بن أبي جهل فظفر بهم ، وبعث بهم إلى [ ص: 323 ] الصديق ، وفيهم أبو صفرة ، وابنه المهلب غلام لم يبلغ الحنث ، ثم نزل المهلب البصرة وقد غزا في أيام معاوية أرض الهند سنة أربع وأربعين ، وولي الجزيرة لابن الزبير سنة ثمان وستين ، ثم ولي حرب الخوارج أول دولة الحجاج ، وقتل منهم في وقعة واحدة أربعة آلاف وثمانمائة ، فعظمت منزلته عند الحجاج . وكان فاضلا شجاعا كريما ، يحب المدح ، وله كلام حسن ، فمنه : نعم الخصلة السخاء ، تستر عورة الشريف ، وتلحق خسيسة الوضيع ، وتحبب المزهود فيه . وقال : يعجبني في الرجل خصلتان : أن أرى عقله زائدا على لسانه ، ولا أرى لسانه زائدا على عقله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      توفي المهلب غازيا بمرو الروذ ، وعمره ستة وسبعون سنة رحمه الله ، وكان له عشرة من الولد وهم : يزيد ، وزياد ، والمفضل ، ومدرك ، وحبيب ، والمغيرة ، وقبيصة ، ومحمد ، وهند ، وفاطمة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      توفي المهلب في ذي الحجة منها ، وكان من الشجعان ، وله مواقف حميدة ، وغزوات مشهورة في الترك والأزارقة وغيرهم من أنواع الخوارج ، وجعل الأمر من بعده لولده يزيد بن المهلب على إمرة خراسان ، فأمضى له ذلك الحجاج وعبد الملك بن مروان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي جمادى الآخرة منها عزل أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان عن [ ص: 324 ] إمرة المدينة أبان بن عثمان ، وولى عليها هشام بن إسماعيل المخزومي ، وكانت ولاية أبان على المدينة سبع سنين وثلاثة أشهر وثلاثة عشر يوما ، وكان على إمرة بلاد المشرق بكماله الحجاج بن يوسف ، والنواب في الأقاليم من تحت يده ، وهو مشغول عن تدبير الممالك بحرب ابن الأشعث في هذه المدة كلها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو معشر : وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان الذي كان نائب المدينة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها توفي أسماء بن خارجة الفزاري الكوفي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كان جوادا ممدحا ، حكي عنه أنه رأى يوما شابا على باب داره جالسا ، فسأله عن قعوده على بابه ، فقال : حاجة لا أستطيع ذكرها . فألح عليه ، فقال : جارية رأيتها دخلت هذه الدار لم أر أحسن منها ، وقد خطفت قلبي معها ، فأخذ بيده ، وأدخله داره ، وعرض عليه كل جارية عنده ، حتى مرت تلك الجارية ، فقال : هذه . فقال له : اخرج فاجلس على الباب مكانك . فخرج الشاب فجلس مكانه ، ثم خرج إليه بعد ساعة والجارية معه ، قد ألبسها أنواع الحلي ، وقال له : ما منعني أن أدفعها إليك وأنت داخل الدار إلا أن الجارية كانت لأختي ، وكانت ضنينة بها ، فاشتريتها لك منها بثلاثة آلاف ، وألبستها هذا الحلي ، فهي لك بما عليها ، فأخذها الشاب وانصرف .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 325 ] المغيرة بن المهلب بن أبي صفرة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كان جوادا ممدحا شجاعا ، له مواقف مشهورة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الحارث بن عبد الله بن ربيعة المخزومي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      المعروف بقباع ،
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولي إمرة البصرة لابن الزبير .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      محمد بن أسامة بن زيد بن حارثة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كان من فضلاء أبناء الصحابة وأعقلهم ، توفي بالمدينة ، ودفن بالبقيع .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      عبد الله بن أبي طلحة بن الأسود

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      والد الفقيه إسحاق ، حملت به أمه أم سليم ليلة مات ابنها ، فأصبح أبو طلحة فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال صلى الله عليه وسلم : أعرستم؟ بارك الله لكما في ليلتكما ولما ولد حنكه بتمرات .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      عبد الله بن كعب بن مالك

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كان قائد كعب حين عمي ، له روايات ، توفي بالمدينة هذه السنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 326 ] سفيان بن وهب أبو أيمن ، الخولاني المصري

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      له صحبة ورواية ، وغزا المغرب ، وسكن مصر ، وبها مات .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      جميل بن عبد الله بن معمر بن صباح بن ظبيان بن الحسن بن ربيعة بن حرام بن ضنة بن عبد بن كثير بن عذرة بن سعد بن هذيم بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة ، أبو عمرو الشاعر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صاحب بثينة ، كان قد خطبها فمنعت منه ، فتغزل فيها واشتهر بها ، وكان أحد عشاق العرب ، كانت إقامته بوادي القرى ، وكان عفيفا صينا ، [ ص: 327 ] دينا شاعرا إسلاميا ، من أفصح الشعراء في زمانه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان كثير عزة راويته ، وهو يروي عن هدبة بن خشرم ، عن الحطيئة ، عن زهير بن أبي سلمى ، وابنه كعب . قال كثير عزة : كان جميل أشعر العرب ، حيث يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وخبرتماني أن تيماء منزل لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا     فهذي شهور الصيف عنا قد انقضت
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فما للنوى ترمي بليلى المراميا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومنها قوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وما زلت بي يا بثن حتى لو انني     من الشوق أستبكي الحمام بكى ليا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وما زادني الواشون إلا صبابة     ولا كثرة الناهين إلا تماديا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وما أحدث النأي المفرق بيننا     سلوا ولا طول الليالي تقاليا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ألم تعلمي يا عذبة الريق أنني     أظل إذا لم ألق وجهك صاديا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لقد خفت أن ألقى المنية بغتة     وفي النفس حاجات إليك كما هيا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومما أورده له القاضي ابن خلكان في الوفيات قوله :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 328 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إني لأحفظ غيبكم ويسرني     لو تعلمين بصالح أن تذكري

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إلى أن قال :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ما أنت والوعد الذي تعدينني     إلا كبرق سحابة لم تمطر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقوله - وروي لعمر بن أبي ربيعة فيما نقله ابن عساكر - :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ما زلت أبغي الحي أتبع فلهم     حتى دفعت إلى ربيبة هودج
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فدنوت مختفيا ألم ببيتها     حتى ولجت إلى خفي المولج
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قالت وعيش أخي ونعمة والدي     لأنبهن الحي إن لم تخرج
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فتناولت رأسي لتعرف مسه     بمخضب الأطراف غير مشنج
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فخرجت خيفة أهلها فتبسمت     فعلمت أن يمينها لم تحرج
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلثمت فاها آخذا بقرونها     شرب النزيف ببرد ماء الحشرج

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 329 ] قال كثير عزة : لقيني جميل بثينة ، فقال : من أين أقبلت؟ فقلت : من عند هذه الحبيبة . فقال : وإلى أين؟ فقلت : إلى هذه الحبيبة - يعني عزة - فقال : أقسمت عليك لما رجعت إلى بثينة فواعدتها لي; فإن لي من أول الصيف ما رأيتها ، وكان آخر عهدي بها بوادي القرى ، وهي تغسل هي وأمها ثوبا ، فتحادثنا إلى الغروب . قال كثير : فرجعت حتى أنخت بهم ، فقال أبو بثينة : ما ردك يا ابن أخي؟ فقلت : أبيات قلتها ، فرجعت لأعرضها عليك ، فقال : وما هي؟ فأنشدته ، وبثينة تسمع من وراء الحجاب :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقلت لها يا عز أرسل صاحبي     إليك رسولا والرسول موكل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بأن تجعلي بيني وبينك موعدا     وأن تأمريني ما الذي فيه أفعل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وآخر عهدي منك يوم لقيتني     بأسفل وادي الدوم والثوب يغسل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 330 ] قال : فضربت بثينة جانب خدرها ، وقالت : اخسأ ، اخسأ . فقال أبوها : مهيم؟ فقالت : كلب يأتينا إذا نام الناس ، من وراء الرابية . ثم قالت لجاريتها : ابغينا من الدومات حطبا ليشوى به لكثير شاة . فقلت : أنا أعجل من ذلك . وانطلقت إلى جميل ، فقلت : موعدك الدومات . قال : فلما كان الليل أقبلت بثينة إلى المكان الذي واعدته إليه ، وجاء جميل ، وكنت معهم ، فما رأيت ليلة أعجب منها ، ولا أحسن منادمات ، وانفض ذلك المجلس وما أدري أيهما أفهم لما في ضمير صاحبه منه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكر الزبير بن بكار عن عباس بن سهل الساعدي أنه دخل على جميل وهو يموت فقال له : ما تقول في رجل لم يشرب الخمر قط ، ولم يزن قط ، ولم يسرق ، ولم يقتل النفس ، وهو يشهد أن لا إله إلا الله . قال : أظنه قد نجا ، وأرجو له الجنة ، فمن هذا؟ قال : أنا . فقلت : والله ما أظنك سلمت ، وأنت تشبب منذ عشرين سنة ببثينة . فقال : لا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم وإني لفي أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا إن كنت [ ص: 331 ] وضعت يدي عليها بريبة . قال : فما برحنا حتى مات .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قلت : كانت وفاته بمصر; لأنه كان قد قدم على عبد العزيز بن مروان ، فأكرمه وسأله عن حبه بثينة ، فقال : شديد ، واستنشده من أشعاره ومدائحه فأنشده ، فوعده أن يجمع بينه وبينها ، فعاجلته المنية في سنة ثنتين وثمانين ، رحمه الله آمين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكر الأصمعي ، عن رجل ، أن جميلا قال له : هل أنت مبلغ عني رسالة إلى حي بثينة ، ولك ما عندي؟ قال : نعم . قال : إذا أنا مت فاركب ناقتي ، والبس حلتي هذه . وأمره أن يقول أبياتا منها قوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قومي بثينة فاندبي بعويل     وابك خليلا دون كل خليل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلما انتهى إلى حيهم أنشد الأبيات ، قال : فخرجت بثينة كأنها بدر بدا في دجنة ، وهي تتثنى في مرطها ، فقالت له : ويحك إن كنت صادقا فقد قتلتني ، وإن كنت كاذبا فقد فضحتني . فقلت : بلى ، والله صادق ، وهذه حلته وناقته . فلما تحققت ذلك صاحت بأعلى صوتها ، وصكت وجهها ، واجتمع نساء الحي إليها يبكين معها ، ثم صعقت مغشيا عليها ، ثم أفاقت ، وهي تقول :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 332 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وإن سلوي عن جميل لساعة     من الدهر ما حانت ولا حان حينها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      سواء علينا يا جميل بن معمر     إذا مت بأساء الحياة ولينها

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الرجل : فما رأيت أكثر باكيا ولا باكية من يومئذ .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى ابن عساكر عنه أنه قيل له بدمشق : لو تركت الشعر وحفظت القرآن؟ فقال : هذا أنس بن مالك يخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن من الشعر لحكمة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      عمر بن عبيد الله بن معمر بن عثمان ، أبو حفص القرشي التميمي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أحد الأجواد ، والأمراء الأمجاد ، فتحت على يديه بلدان كثيرة ، وكان نائبا لابن الزبير على البصرة ، وقد فتح كابل مع عبد الله بن خازم ، وهو الذي قتل قطري بن الفجاءة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      روى عن ابن عمر وجابر وغيرهما ، وعنه عطاء بن أبي رباح ، وابن عون . ووفد على عبد الملك ، فتوفي بدمشق سنة ثنتين وثمانين ، قاله المدائني .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 333 ] وحكي أن رجلا اشترى جارية كانت تحسن القرآن والشعر وغيره ، فأحبها حبا شديدا ، وأنفق عليها ماله كله حتى أفلس ، ولم يبق له شيء سوى هذه الجارية ، فقالت له الجارية : قد أرى ما بك من قلة الشيء ، فلو بعتني وانتفعت بثمني صلح حالك ، فباعها لعمر بن عبيد الله هذا - وهو يومئذ أمير البصرة - بمائة ألف درهم ، فلما قبض المال ندم وندمت الجارية ، فأنشأت تخاطب مولاها الذي باعها :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      هنيئا لك المال الذي قد أخذته     ولم يبق في كفي إلا تفكري
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أقول لنفسي وهي في كرب غشية     أقلي فقد بان الخليط أو أكثري
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا لم يكن في الأمر عندك حيلة     ولم تجدي بدا من الصبر فاصبري

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فأجابها سيدها ، فقال :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولولا قعود الدهر بي عنك لم يكن     لفرقتنا شيء سوى الموت فاعذري
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أءوب بحزن من فراقك موجع     أناجي به قلبا طويل التذكر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      عليك سلام لا زيارة بيننا     ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلما سمعهما ابن معمر قد شببت ، قال : والله لا فرقت بين محبين أبدا . [ ص: 334 ] ثم أعطاه المال - وهو مائة ألف - والجارية; لما رأى من توجعهما على فراق كل منهما صاحبه ، فأخذ الرجل الجارية وثمنها وانطلق .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      توفي عمر بن عبيد الله بن معمر هذا بدمشق بالطاعون ، وصلى عليه عبد الملك بن مروان ، ومشى في جنازته ، وحضر دفنه ، وأثنى عليه بعد موته ، وكان له من الولد طلحة ، وهو من سادات قريش ، تزوج فاطمة بنت القاسم بن محمد بن جعفر على صداق أربعين ألف دينار ، فأولدها إبراهيم ورملة ، فتزوج رملة إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس على صداق مائة ألف دينار ، رحمهم الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كميل بن زياد بن نهيك بن الهيثم ، النخعي الكوفي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      روى عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي هريرة ، وشهد مع علي صفين ، وكان شجاعا فاتكا ، وزاهدا عابدا ، قتله الحجاج في هذه السنة ، - وقد عاش مائة سنة - قتله صبرا بين يديه ، وإنما نقم عليه; لأنه طلب من عثمان بن عفان القصاص من لطمة لطمها إياه ، فلما أمكنه عثمان من نفسه عفا عنه ، فقال له الحجاج : أو مثلك يسأل من أمير المؤمنين القصاص؟ ثم أمر فضربت عنقه . قالوا : [ ص: 335 ] وذكر الحجاج عليا في غبون ذلك فنال منه ، وصلى عليه كميل ، فقال له الحجاج : والله لأبعثن إليك من يبغض عليا أكثر مما تحبه أنت . فأرسل إليه ابن أدهم ، وكان من أهل حمص ، ويقال : أبا الجهم بن كنانة ، فضرب عنقه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد روى عن كميل جماعة كثيرة من التابعين ، وله الأثر المشهور عن علي بن أبي طالب الذي أوله : القلوب أوعية ، فخيرها أوعاها . وهو طويل ، قد رواه جماعة من الحفاظ الثقات ، وفيه مواعظ وكلام حسن ، رضي الله عن قائله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      زاذان أبو عمرو الكندي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أحد التابعين ، كان أولا يشرب المسكر ويضرب بالطنبور ، فرزقه الله التوبة على يد عبد الله بن مسعود ، وحصلت له إنابة ورجوع إلى الحق ، وخشية شديدة ، حتى كان في الصلاة كأنه خشبة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال مرة : إني جائع . فنزل عليه من الروزنة رغيف مثل الرحا . وهو ثقة عند ابن معين وغيره . قال خليفة : توفي سنة ثنتين وثمانين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال خليفة : وفيها توفي زر بن حبيش ، أحد أصحاب ابن مسعود وعائشة ، [ ص: 336 ] وقد أتت عليه مائة وعشرون سنة . وقال أبو عبيد : مات سنة إحدى وثمانين ، وقد تقدمت له ترجمة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وشقيق بن سلمة أبو وائل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أدرك من زمن الجاهلية سبع سنين ، وأسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أم الدرداء الصغرى

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      اسمها هجيمة ، ويقال : جهيمة ، تابعية عابدة عالمة فقيهة ، كان الرجال يقرءون عليها ويتفقهون في الحائط الشمالي بجامع دمشق وكان عبد الملك بن مروان يجلس في حلقتها مع المتفقهة ، يشتغل عليها وهو خليفة ، رضي الله عنها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية