ولنبدأ قبل ذلك بشيء من ترجمته ، ثم نتبع الجميع بذكر . مناقبه وفضائله
هو ، الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم أبو عبد الله القرشي الهاشمي ، السبط الشهيد بكربلاء ، ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة الزهراء وريحانته من الدنيا ، ولد بعد أخيه الحسن ، الحسن في سنة ثلاث من الهجرة . وقال بعضهم : إنما كان بينهما طهر واحد ومدة الحمل . وولد لخمس ليال خلون من شعبان سنة أربع . وكان مولد
[ ص: 474 ] وقال قتادة : ولد الحسين لست سنين وخمسة أشهر ونصف من التاريخ ، ، وله أربع وخمسون سنة وستة أشهر ونصف ، رضي الله عنه . وقتل يوم الجمعة يوم عاشوراء في المحرم سنة إحدى وستين
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حنكه ، وتفل في فيه ، ودعا له ، وسماه حسينا ، وقد كان سماه أبوه قبل ذلك حربا ، وقيل : جعفرا . وقيل : إنما سماه يوم سابعه وعق عنه .
وقال جماعة ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن هانئ بن هانئ ، عن علي ، رضي الله عنه قال : الحسن أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الصدر إلى الرأس ، والحسين أشبه به ما كان أسفل من ذلك .
وقال الزبير بن بكار : حدثني محمد بن الضحاك الحزامي قال : كان الحسن يشبه وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان جسد وجه الحسين يشبه جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 475 ] وروى وأخته محمد بن سيرين حفصة ، عن أنس قال : كنت عند ابن زياد ، فجيء برأس الحسين ، فجعل يقول بقضيب في أنفه ويقول : ما رأيت مثل هذا حسنا . فقلت له : إنه كان من أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال سفيان : قلت لعبيد الله بن أبي يزيد : رأيت الحسين ؟ قال : نعم ، أسود الرأس واللحية إلا شعرات هاهنا في مقدم لحيته ، فلا أدري أخضب وترك ذلك المكان تشبها برسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يكن شاب منه غير ذلك ؟
وقال : سمعت ابن جريج عمر بن عطاء قال : رأيت الحسين بن علي يصبغ بالوسمة ، أما هو فكان ابن ستين ، وكان رأسه ولحيته شديدي السواد .
فأما الحديث الذي روي من طريقين ضعيفين ، أن فاطمة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض الموت أن ينحل ولديها شيئا ، فقال : الحسن فله هيبتي وسؤددي ، وأما الحسين فله جرأتي وجودي " . فليس بصحيح ، ولم يخرجه [ ص: 476 ] أحد من أصحاب الكتب المعتبرة ، وقد أدرك " أما الحسين من حياة النبي صلى الله عليه وسلم خمس سنين أو نحوها ، وروى عنه أحاديث .
وقال مسلم بن الحجاج : له رؤية من النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد روى صالح بن أحمد بن حنبل ، عن أبيه ، أنه قال في الحسن بن علي : إنه تابعي ثقة . وهذا غريب ، فلأن يقول في الحسين : إنه تابعي بطريق الأولى .
وسنذكر ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمهما به ، وما كان يظهر من محبتهما والحنو عليهما .
والمقصود أن الحسين عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه إلى أن توفي وهو عنه راض ، ولكنه كان صغيرا ، ثم كان الصديق يكرمه ويعظمه ، وكذلك عمر وعثمان ، وصحب أباه وروى عنه ، وكان معه في مغازيه كلها ; في الجمل وصفين ، وكان معظما موقرا ، ولم يزل في طاعة أبيه حتى قتل ، فلما آلت الخلافة إلى أخيه ، وأراد أن يصالح معاوية شق ذلك عليه ، ولم يسدد رأي أخيه في ذلك ، بل حثه على قتال أهل الشام ، فقال له أخوه : والله لقد هممت أن أسجنك في بيت ، وأطبق عليك بابه حتى أفرغ من هذا الشأن ، ثم أخرجك . فلما رأى الحسين ذلك سكت وسلم ، فلما استقرت الخلافة لمعاوية كان الحسين يتردد إليه مع أخيه الحسن ، فكان معاوية يكرمهما إكراما زائدا ، ويقول لهما : مرحبا وأهلا . ويعطيهما عطاء جزيلا ، وقد أطلق لهما في يوم واحد مائتي [ ص: 477 ] ألف ، وقال : خذاها وأنا ابن هند ، والله لا يعطيكماها أحد قبلي ولا أحد بعدي . فقال الحسين : والله لن تعطي أنت ولا أحد قبلك ولا بعدك رجلين أفضل منا . ولما توفي الحسن كان الحسين يفد إلى معاوية في كل عام فيعطيه ويكرمه ، وقد القسطنطينية مع ابن معاوية يزيد ، في سنة إحدى وخمسين . ولما أخذت البيعة كان في الجيش الذين غزوا ليزيد في حياة معاوية ، كان الحسين ممن امتنع من مبايعته هو وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر ، ثم مات وابن عباس ابن أبي بكر وهو مصمم على ذلك ، فلما مات معاوية سنة ستين وبويع ليزيد ، بايع ابن عمر ، وصمم على المخالفة وابن عباس الحسين وابن الزبير ، وخرجا من المدينة فارين إلى مكة فأقاما بها ، فعكف الناس على الحسين يفدون إليه ويقدمون عليه ، ويجلسون حواليه ويستمعون كلامه ، حين سمعوا بموت معاوية وخلافة يزيد ، وأما ابن الزبير فإنه لزم مصلاه عند الكعبة ، وجعل يتردد في غبون ذلك إلى الحسين في جملة الناس ، ولا يمكنه أن يتحرك بشيء مما في نفسه مع وجود الحسين ; لما يعلم من تعظيم الناس له وتقديمهم إياه عليه ، غير أنه قد تعينت السرايا والبعوث إلى مكة بسببه ، ولكن أظفره الله بهم ، كما تقدم ذلك آنفا ، فانقشعت السرايا عن مكة مفلولين ، وانتصر عبد الله بن الزبير على من أراد هلاكه من اليزيديين ، وضرب أخاه عمرا وسجنه ، واقتص منه وأهانه ، وعظم شأن ابن الزبير عند ذلك ببلاد الحجاز ، واشتهر أمره وبعد صيته ، [ ص: 478 ] ومع هذا كله ليس هو معظما عند الناس مثل الحسين ، بل الناس إنما ميلهم إلى الحسين ، لأنه السيد الكبير ، وابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فليس على وجه الأرض يومئذ أحد يساميه ولا يساويه ، ولكن الدولة اليزيدية كلها تناوئه .
وقد كثر ورود الكتب عليه من بلاد العراق يدعونه إليهم ، وذلك حين بلغهم موت معاوية وولاية يزيد ، ومصير الحسين إلى مكة فرارا من بيعة يزيد ، فكان أول من قدم عليه عبد الله بن سبع الهمداني ، وعبد الله بن وال ، معهما كتاب فيه السلام والتهنئة بموت معاوية ، فقدما على الحسين لعشر مضين من رمضان من هذه السنة ، ثم بعثوا بعدهما نفرا ; منهم قيس بن مسهر الصيداوي ، وعبد الرحمن بن عبد الله بن الكواء الأرحبي ، وعمارة بن عبد الله السلولي ، ومعهم نحو من مائة وخمسين كتابا إلى الحسين ، ثم بعثوا هانئ بن هانئ السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي ، ومعهما كتاب فيه الاستعجال في السير إليهم ، وكتب إليه شبث بن ربعي ، وحجار بن أبجر ، ويزيد بن الحارث بن رويم ، [ ص: 479 ] وعزرة بن قيس ، وعمرو بن حجاج الزبيدي ، ومحمد بن عمير بن يحيى التميمي : أما بعد ؛ فقد اخضر الجناب وأينعت الثمار وطمت الجمام ، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجند ، والسلام عليك . فاجتمعت الرسل كلها بكتبها عند الحسين ، وجعلوا يستحثونه ويستقدمونه عليهم ، ليبايعوه عوضا عن يزيد بن معاوية ; ويذكرون في كتبهم أنهم فرحوا بموت معاوية ، وينالون منه ويتكلمون في دولته ، وأنهم لم يبايعوا أحدا إلى الآن ، وأنهم ينتظرون قدومك إليهم ليقدموك عليهم . فعند ذلك بعث ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب إلى العراق ، ليكشف له حقيقة هذا الأمر والاتفاق ، فإن كان متحتما وأمرا حازما محكما ، بعث إليه ليركب في أهله وذويه ، ويأتي الكوفة ليظفر بمن يعاديه ، وكتب معه كتابا إلى أهل العراق بذلك ، فلما سار مسلم من مكة اجتاز بالمدينة ، فأخذ منها دليلين ، فسارا به على براري مهجورة المسالك ، فكان أحد الدليلين منهما أول هالك ، وذلك من شدة العطش ، وقد أضلوا الطريق ، فهلك الدليل الواحد بمكان يقال له : المضيق . من بطن خبيت ، فتطير به مسلم بن [ ص: 480 ] عقيل ، فتلبث مسلم على ما هنالك ، ومات الدليل الآخر ، فكتب إلى الحسين يستشيره في أمره ، فكتب إليه يعزم عليه أن يدخل العراق ، وأن يجتمع بأهل الكوفة ; ليستعلم أمرهم ويستخبر خبرهم ، فلما دخل الكوفة نزل على رجل يقال له : مسلم بن عوسجة الأسدي . وقيل : نزل في دار . فالله أعلم . فتسامع المختار بن أبي عبيد الثقفي أهل الكوفة بقدومه فجاءوا إليه فبايعوه على إمرة الحسين ، وحلفوا له لينصرنه بأنفسهم وأموالهم ، فاجتمع على بيعته من أهلها اثنا عشر ألفا ، ثم تكاثروا حتى بلغوا ثمانية عشر ألفا ، فكتب مسلم إلى الحسين ليقدم عليهم فقد تمهدت له البيعة والأمور ، فتجهز الحسين من مكة قاصدا الكوفة كما سنذكره ، وانتشر خبرهم حتى بلغ أمير الكوفة النعمان بن بشير ، أخبره رجل بذلك ، فجعل يضرب عن ذلك صفحا ولا يعبأ به ولكنه خطب الناس ، ونهاهم عن الاختلاف والفتنة ، وأمرهم بالائتلاف والسنة ، وقال : إني لا أقاتل من لا يقاتلني ، ولا أثب على من لا يثب علي ، ولا آخذكم بالظنة ، ولكن والله الذي لا إله إلا هو لئن فارقتم إمامكم ونكثتم بيعته ، لأقاتلنكم ما دام في يدي من سيفي قائمته . فقام إليه رجل يقال له : عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي . فقال له : إن هذا الأمر لا يصلح إلا بالغشم ، وإن الذي سلكته أيها الأمير مسلك المستضعفين . فقال له النعمان : لأن أكون من المستضعفين في طاعة الله ، أحب إلي من أن أكون من الأعزين في معصية الله . ثم نزل ، [ ص: 481 ] فكتب ذلك الرجل إلى يزيد يعلمه بذلك ، وكتب إلى يزيد عمارة بن عقبة وعمر بن سعد بن أبي وقاص ، فبعث يزيد ، فعزل النعمان عن الكوفة وضمها إلى عبيد الله بن زياد مع البصرة ، وذلك بإشارة سرجون مولى يزيد بن معاوية وكان يزيد يستشيره ، فقال سرجون : أكنت قابلا من معاوية ما أشار به لو كان حيا ؟ قال : نعم . قال : فاقبل مني ، فإنه ليس للكوفة إلا عبيد الله بن زياد ، فوله إياها ، وكان يزيد يبغض عبيد الله بن زياد ، وكان يريد أن يعزله عن البصرة فولاه البصرة والكوفة معا لما يريده الله به وبغيره .
ثم كتب يزيد إلى ابن زياد : إذا قدمت الكوفة فتطلب مسلم بن عقيل فإن قدرت عليه فاقتله أو انفه . وبعث الكتاب مع العهد مع مسلم بن عمرو الباهلي ، فسار ابن زياد من البصرة إلى الكوفة ، فلما دخلها دخلها متلثما بعمامة سوداء ، فجعل لا يمر بملأ من الناس إلا قال : سلام عليكم . فيقولون : وعليكم السلام ، مرحبا يابن رسول الله . يظنون أنه الحسين ، وقد كانوا ينتظرون قدومه ، وتكاثر الناس عليه ، ودخلها في سبعة عشر راكبا ، فقال لهم مسلم بن عمرو الذي من جهة يزيد : تأخروا ، هذا الأمير عبيد الله بن زياد فلما علموا ذلك علتهم كآبة وحزن شديد ، فتحقق عبيد الله الخبر ، ونزل قصر الإمارة من الكوفة .
ولما انتهى ابن زياد إلى باب القصر وهو متلثم ظنه النعمان بن بشير الحسين قد قدم ، فأغلق باب القصر ، وقال : ما أنا بمسلم إليك أمانتي . فقال له عبيد الله : افتح لا فتحت . ففتح وهو يظنه الحسين ، فلما تحقق أنه عبيد الله أسقط في يده ، فدخل عبيد الله إلى قصر الإمارة ، وأمر مناديا فنادى [ ص: 482 ] أن الصلاة جامعة . فاجتمع الناس ، فخرج إليهم ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد فإن أمير المؤمنين . أصلحه الله ، ولاني مصركم وثغركم وفيئكم ، وأمرني بإنصاف مظلومكم ، وإعطاء محرومكم ، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم ، وبالشدة على مريبكم وعاصيكم ، وأنا ممتثل فيكم أمره ومنفذ عهده . ثم نزل وأمر العرفاء أن يكتبوا من عندهم من الحرورية وأهل الريب والخلاف والشقاق ، وأيما عريف لم يطلعنا على ذلك صلب ونفي وأسقطت عرافته من الديوان .
فلما استقر أمره أرسل مولى لبني تميم - وقيل : كان مولى له اسمه معقل - ومعه ثلاثة آلاف درهم في صورة قاصد من بلاد حمص ، وأنه إنما جاء لهذه البيعة ، فذهب ذلك المولى ، فلم يزل يتلطف ويستدل على الدار التي يبايعون بهامسلم بن عقيل ، حتى دخلها ، وهي دار هانئ بن عروة التي تحول إليها من الدار الأولى ، فبايع وأدخلوه على مسلم بن عقيل ، فلزمهم أياما حتى اطلع على جلية أمرهم ، فدفع المال إلى أبي ثمامة الصائدي بأمر مسلم بن عقيل وكان هو الذي يقبض ما يؤتى به من الأموال ويشتري السلاح وكان من فرسان العرب - فرجع ذلك المولى ، وأعلم عبيد الله بالدار وصاحبها ، وقد تحول مسلم بن عقيل من دار هانئ بن عروة المرادي ، إلى دار شريك بن الأعور ، [ ص: 483 ] وكان من الأمراء الأكابر ، وبلغه أن عبيد الله يريد عيادته ، فبعث إلى هانئ يقول له : ابعث مسلم بن عقيل حتى يكون في داري ليقتل عبيد الله إذا جاء يعودني . فبعثه إليه ، فقال له شريك : كن أنت في الخباء ، فإذا جلس عبيد الله فإني أطلب الماء ، وهي إشارتي إليك ، فاخرج فاقتله . فلما جاء عبيد الله جلس على فراش شريك وعنده هانئ بن عروة ، وقام من بين يديه غلام يقال له : مهران . فتحدث عنده ساعة ، ثم قال شريك : اسقوني ماء . فتجبن مسلم عن قتله ، وخرجت جارية بكوز من ماء ، فوجدت مسلما في الخباء فاستحيت ورجعت . قالها ثلاثا ، ثم قال : اسقوني ولو كان فيه ذهاب نفسي ، أتحمونني من الماء ؟ ففهممهران الغدر ، فغمز مولاه ، فنهض سريعا وخرج ، فقال شريك : أيها الأمير ، إني أريد أن أوصي إليك . فقال : إني سأعود إليك . فخرج به مولاه ، فأذهبه وجعل يطرد به يقول له : إن القوم أرادوا قتلك . فقال : ويحك ! إني بهم لرفيق ، فما بالهم ؟ ! وقال شريك لمسلم : ما منعك أن تخرج فتقتله ؟ قال : حديث بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الإيمان قيد الفتك ، لا يفتك مؤمن " . وكرهت أن أقتله في بيتك . فقال : أما لو قتلته لجلست في القصر لم يستعد منه أحد ولتكفين أمر البصرة ، ولو قتلته لقتلت ظالما فاجرا . ومات شريك بعد ثلاث .
[ ص: 484 ] وكان هانئ أحد الأمراء الكبار ولم يسلم على عبيد الله منذ قدم وتمارض ، فذكره عبيد الله ، وقال : ما بال هانئ لم يأتني مع الأمراء ؟ فقالوا : أيها الأمير ، إنه يشتكي . فقال : قد بلغني أنه يجلس على باب داره .
وزعم بعضهم أنه عاده قبل شريك بن الأعور ومسلم بن عقيل عنده ، وقد هموا بقتله ، فلم يمكنهم هانئ لكونه في داره ، فجاء الأمراء إلى هانئ بن عروة ، فلم يزالوا به حتى أدخلوه على عبيد الله بن زياد ، فالتفت عبيد الله إلى القاضي شريح ، فقال متمثلا بقول الشاعر :
أريد حياته ويريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد
فلما سلم هانئ على عبيد الله قال : يا هانئ ، أين مسلم بن عقيل ؟ قال : لا أدري . فقام ذلك المولى التميمي - الذي دخل دار هانئ في صورة قاصد من حمص ، فبايع في داره ، ودفع الدراهم بحضرة هانئ إلى مسلم - فقال : أتعرف هذا ؟ قال : نعم . فلما رآه هانئ قطع به وأسقط في يده ، فقال : أصلح الله الأمير ، والله ما دعوته إلى منزلي ، ولكنه جاء فطرح نفسه علي . فقال عبيد الله : فأتني به . فقال : والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه . فقال : أدنوه مني . فأدنوه فضربه بحربة على وجهه ، فشجه على حاجبه ، وكسر أنفه ، وتناول هانئ سيف شرطي ليسله ، فدفع عن ذلك ، وقال عبيد الله : قد أحل الله لي دمك ; لأنك حروري . ثم أمر به ، فحبسه في جانب الدار ، وجاء قومه من بني [ ص: 485 ] مذحج مع عمرو بن الحجاج ، فوقفوا على باب القصر ، يظنون أنه قد قتل ، فسمع عبيد الله لهم جلبة ، فقال لشريح القاضي وهو عنده : اخرج إليهم فقل لهم : إن الأمير لم يحبسه إلا ليسأله عن مسلم بن عقيل . فقال لهم : إن صاحبكم حي ، وقد ضربه سلطاننا ضربا لم يبلغ نفسه ، فانصرفوا ولا تحلوا بأنفسكم ولا بصاحبكم . فتفرقوا إلى منازلهم ، وسمع مسلم بن عقيل الخبر ، فركب ونادى بشعاره : يا منصور أمت . فاجتمع إليه أربعة آلاف من أهل الكوفة ، وكان معه المختار بن أبي عبيد ، ومعه راية خضراء ، براية حمراء ، فرتبهم ميمنة وميسرة ، وسار هو في القلب إلى وعبد الله بن الحارث بن نوفل عبيد الله وهو يخطب الناس في أمر هانئ ، ويحذرهم من الاختلاف ، وأشراف الناس وأمراؤهم تحت منبره ، فبينما هو كذلك إذ جاءت النظارة يقولون : جاء مسلم بن عقيل . فبادر عبيد الله فدخل القصر ومن معه ، وأغلقوا عليهم الباب ، فلما انتهى مسلم إلى باب القصر وقف بجيشه هناك ، فأشرف أمراء القبائل الذين عند عبيد الله في القصر ، فأشاروا إلى قومهم الذين مع مسلم بالانصراف وتهددوهم ووعدوهم وتوعدوهم ، وأخرج عبيد الله بعض الأمراء ، وأمرهم أن يركبوا في الكوفة يخذلون الناس عن مسلم بن عقيل ، ففعلوا ذلك فجعلت المرأة تجيء إلى ابنها وأخيها فتقول : ارجع ، الناس يكفونك . ويقول الرجل لابنه وأخيه : كأنك غدا بجنود الشام قد أقبلت ، فماذا تصنع معهم ؟ فتخاذل الناس وقصروا وتصرموا وانصرفوا عن مسلم بن عقيل فما أمسى إلا وهو في [ ص: 486 ] خمسمائة نفس ، ثم بقي في ثلاثمائة ، ثم لم يبق معه إلا ثلاثون رجلا ، فصلى بهم المغرب ، وقصد أبواب كندة ، فخرج منها في عشرة ، ثم انصرفوا عنه ، فبقي وحده ، ليس معه من يدله على الطريق ، ولا من يواسيه بنفسه ، ولا من يأويه إلى منزله ، فذهب على وجهه ، واختلط الظلام وهو وحده يتردد في الطريق لا يدري أين يذهب ، فأتى بابا فنزل عنده وطرقه ، فخرجت منه امرأة يقال لها : طوعة - كانت أم ولد ، وقد كان لها ابن من غيره يقال له : للأشعث بن قيس بلال بن أسيد . خرج مع الناس ، وأمه قائمة بالباب تنتظره - فقال لها مسلم بن عقيل : اسقني ماء . فسقته ، ثم دخلت وخرجت فوجدته ، فقالت : ألم تشرب ؟ قال : بلى . قالت : فاذهب إلى أهلك . فسكت ، فقالت له ذلك ثلاثا وهو ساكت ، فقالت : سبحان الله يا عبد الله ! قم إلى أهلك ، عافاك الله ، فإنه لا يصلح لك الجلوس على بابي ، ولا أحله لك . فقام فقال : يا أمة الله ، ليس لي في هذا البلد منزل ولا عشيرة ، فهل لك إلى أجر ومعروف وفعل نكافئك به بعد اليوم . فقالت : يا عبد الله ، وما ذاك ؟ قال : أنا مسلم بن عقيل ، كذبني هؤلاء القوم وغروني . فقالت : أنت مسلم ؟ قال : نعم . قالت : ادخل . فأدخلته بيتا من دارها غير البيت الذي يكون فيه ، وفرشت له ، وعرضت عليه العشاء فلم يتعش ، فلم يكن بأسرع من أن جاء ابنها فرآها تكثر الدخول والخروج ، فسألها عن شأنها فقالت : يا بني ، اله عن هذا . فألح عليها ، فأخذت عليه أن لا يحدث أحدا ، فأخبرته خبر مسلم ، فاضطجع وسكت إلى الصباح .[ ص: 487 ] وأما عبيد الله بن زياد فإنه نزل من القصر بمن معه من الأمراء والأشراف بعد عشاء الآخرة ، فصلى بهم العشاء في المسجد الجامع ، ثم خطبهم وطلب منهم مسلم بن عقيل ، وحث على طلبه ، ومن وجد عنده ولم يعلم به فدمه هدر ، ومن جاء به فله ديته ، وطلب الشرط ، وحرضهم على تطلبه وتهددهم وتوعدهم ، فلما أصبح ابن تلك العجوز ذهب إلى ، فأعلمه بأن عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث مسلم بن عقيل في دارهم ، فجاء عبد الرحمن ، فسار أباه بذلك وهو عند ابن زياد ، فقال ابن زياد : ما سارك به ؟ فقال : أخبرني أن مسلما في بعض دورنا . فنخس بقضيب في جنبه ، وقال : قم فأتني به الساعة .
وبعث ابن زياد - وكان صاحب شرطته - ومعه عمرو بن حريث المخزومي عبد الرحمن ومحمد بن الأشعث في سبعين أو ثمانين فارسا ، فلم يشعر مسلم إلا وقد أحيط بالدار التي هو فيها ، فدخلوا عليه ، فقام إليهم بالسيف فأخرجهم من الدار ثلاث مرات ، وأصيبت شفته العليا والسفلى ، ثم جعلوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النار في أطنان القصب ويلقونها عليه ، فضاق بهم ذرعا ، فخرج إليهم بسيفه فقاتلهم ، فأعطاه عبد الرحمن الأمان ، فأمكنه من يده ، وجاءوا ببغلة ، فأركبوه عليها ، وسلبوا منه سيفه ، فلم يبق يملك من نفسه شيئا ، فبكى عند ذلك ، وعرف أنه مقتول ، فيئس من نفسه ، وقال : إنا لله وإنا إليه راجعون . فقال [ ص: 488 ] له بعض من حوله : إن من يطلب مثل الذي تطلب لا يبكي إذا نزل به هذا . فقال : أما والله لست أبكي على نفسي ، ولكن أبكي على الحسين وآل الحسين ، إنه قد خرج إليكم اليوم أو غدا من مكة . ثم التفت إلى محمد بن الأشعث فقال : إن استطعت أن تبعث إلى الحسين على لساني تأمره بالرجوع فافعل . فبعث محمد بن الأشعث إلى الحسين يأمره بالرجوع ، فلم يصدق الرسول في ذلك ، وقال : كل ما حم واقع .
قالوا : ولما انتهى مسلم بن عقيل إلى باب القصر إذا على بابه جماعة من الأمراء من أبناء الصحابة ممن يعرفهم ويعرفونه ، ينتظرون أن يؤذن لهم على ابن زياد ، ومسلم مخضب بالدماء وجهه وثيابه ، وهو مثخن بالجراح ، في غاية العطش ، وإذا قلة من ماء بارد هنالك ، فأراد أن يتناولها ليشرب منها ، فقال له رجل من أولئك : والله لا تشرب منها حتى تشرب من الحميم . فقال له : ويلك يا ابن باهلة ! أنت أولى بالحميم والخلود في نار جهنم مني . ثم جلس متساندا إلى الحائط من التعب والكلال والعطش ، فبعث عمارة بن عقبة بن أبي معيط مولى له إلى داره ، فجاء بقلة عليها منديل ومعه قدح ، فجعل يفرغ له في القدح ، ويعطيه فيشرب ، فلا يستطيع من كثرة الدماء التي تعلو على الماء ، مرتين أو ثلاثا ، فلما شرب سقطت ثنيتاه مع الماء ، فقال : الحمد لله ، لقد كان لي من الرزق المقسوم شربة ماء .
ثم أدخل على ابن زياد ، فلما أوقف بين يديه لم يسلم عليه ، فقال له [ ص: 489 ] الحرسي : ألا تسلم على الأمير ؟ ! فقال : لا ، إن كان يريد قتلي فلا حاجة لي بالسلام عليه ، وإن لم يرد قتلي فسأسلم عليه كثيرا . فأقبل ابن زياد عليه فقال : إيه يا ابن عقيل ، أتيت الناس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة ; لتشتتهم ، وتفرق كلمتهم ، وتحمل بعضهم على بعض ؟ ! قال : كلا لست لذلك أتيت ، ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم ، وسفك دماءهم ، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر ، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى حكم الكتاب . قال : وما أنت وذاك يا فاسق ، أو لم نكن نعمل بذلك فيهم إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر ؟ فقال : أنا أشرب الخمر ! والله إن الله ليعلم أنك غير صادق ، وأنك قلت بغير علم ، وأنت أحق بذلك مني ، فإني لست كما ذكرت ، وإن أولى بها مني من يلغ في دماء المسلمين ولغا ، ويقتل النفس التي حرم الله بغير نفس ، ويقتل على الغضب والظن ، وهو يلهو ويلعب كأنه لم يصنع شيئا . فقال له ابن زياد : يا فاسق ، إن نفسك تمنيك ما حال الله دونك ودونه ، ولم يرك أهله . قال : فمن أهله يا ابن زياد ؟ قال : أمير المؤمنين يزيد . قال : الحمد لله على كل حال ، رضينا بالله حكما بيننا وبينكم . قال : كأنك تظن أن لكم في الأمر شيئا ؟ قال : لا والله ما هو بالظن ، ولكنه اليقين . قال له : قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام من الناس . قال : أما إنك أحق من أحدث في الإسلام ما لم يكن فيه ، أما إنك لا تدع سوء القتلة ، وقبح المثلة ، وخبث السيرة المكتسبة عن آبائكم وجهالكم . وأقبل ابن زياد يشتمه ويشتم حسينا وعليا ، ومسلم [ ص: 490 ] ساكت لا يكلمه . ذكره ابن جرير عن وغيره من رواة أبي مخنف الشيعة .
ثم قال له ابن زياد : إني قاتلك . قال : كذلك ؟ قال : نعم . قال : فدعني أوصي إلى بعض قومي . قال : أوص . فنظر في جلسائه وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص . فقال : يا عمر ، إن بيني وبينك قرابة ، ولي إليك حاجة ، وهو سر . فأبى أن يقوم معه حتى أذن له ابن زياد ، فقام فتنحى قريبا من ابن زياد ، فقال له مسلم : إن علي دينا في الكوفة ; سبعمائة درهم فاقضها عني ، واستوهب جثتي من ابن زياد فوارها ، وابعث إلى الحسين ، فإني قد كتبت إليه أعلمه أن الناس معه ، ولا أراه إلا مقبلا . فقام عمر فعرض على ابن زياد ما قال له ، فأجاز له ذلك كله ، وقال : وأما الحسين فإنه إن لم يردنا لا نرده ، وإن أرادنا لم نكف عنه . ثم أمر ابن زياد بمسلم بن عقيل ، فأصعد إلى أعلى القصر ، وهو يكبر ويستغفر ويصلي على ملائكة الله ، ويقول : اللهم احكم بيننا وبين قوم غرونا وخذلونا . ثم ضرب عنقه رجل يقال له : بكير بن حمران . ثم ألقى رأسه إلى أسفل القصر ، وأتبع رأسه بجسده .
ثم أمر بهانئ بن عروة المذحجي ، فضربت عنقه بسوق الغنم ، وصلب بمكان من الكوفة يقال له : الكناسة . فقال رجل شاعر في ذلك قصيدة ، ويقال : إنها : للفرزدق
فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري إلى هانئ في السوق وابن عقيل
[ ص: 491 ] أصابهما أمر الإمام فأصبحا أحاديث من يسعى بكل سبيل
إلى بطل قد هشم السيف وجهه وآخر يهوى في طمار قتيل
تري جسدا قد غير الموت لونه ونضح دم قد سال كل مسيل
فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم فكونوا بغايا أرضيت بقليل
وقد كان عبيد الله قبل أن يخرج من البصرة بيوم خطب أهلها خطبة بليغة ، ووعظهم فيها وحذرهم وأنذرهم من الاختلاف والفتنة والتفرق .
وذلك كما رواه هشام بن الكلبي وأبو مخنف ، عن الصقعب بن زهير ، عن قال : وكتب أبي عثمان النهدي الحسين مع مولى له يقال له : سليمان . كتابا إلى أشراف أهل البصرة فيه : أما بعد ، فإن الله اصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم على خلقه ، وأكرمه بنبوته ، واختاره لرسالته ، ثم قبضه إليه وقد نصح لعباده وبلغ ما أرسل به ، وكنا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته ، وأحق الناس بمقامه في الناس ، فاستأثر علينا قومنا بذلك ، فرضينا وكرهنا الفرقة ، وأحببنا العافية ، ونحن نعلم أنا أحق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولاه ، وقد أحسنوا وأصلحوا ، وتحروا الحق ، [ ص: 492 ] فرحمهم الله ، وغفر لنا ولهم ، وقد بعثت إليكم بهذا الكتاب ، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه ، فإن السنة قد أميتت ، وإن البدعة قد أحييت ، فإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد ، والسلام عليكم ورحمة الله - وعندي في صحة هذا عن الحسين نظر ، والظاهر أنه مطرز بكلام مزيد من بعض رواة الشيعة - قال : فكل من قرأ الكتاب من الأشراف كتمه إلا المنذر بن الجارود فإنه ظن أنه دسيسة من ابن زياد ، فجاء به إليه ، فبعث خلف الرسول الذي جاء به ، فضرب عنقه . وصعد عبيد الله المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد فوالله ما بي تقرن الصعبة ، وما يقعقع لي بالشنان ، وإني لنكل لمن عاداني ، وسمام لمن حاربني ، أنصف القارة من راماها ، يا أهل البصرة ، إن أمير المؤمنين ولاني الكوفة وأنا غاد إليها الغداة ، وقد استخلفت عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان ، وإياكم والخلاف والإرجاف ، فوالذي لا إله غيره لئن بلغني عن رجل منكم خلاف لأقتلنه وعريفه ووليه ، ولآخذن الأدنى بالأقصى ، حتى تستقيموا لي ، ولا يكون فيكم مخالف ولا مشاق ، أنا ابن زياد ، أشبهته من بين من وطئ الحصى ، ولم ينتزعني شبه خال ولا عم . ثم خرج من البصرة ومعه مسلم بن عمرو الباهلي ، فكان من أمره ما تقدم .
[ ص: 493 ] قال أبو مخنف ، عن الصقعب بن زهير ، عن قال : كان مخرج عون بن أبي جحيفة مسلم بن عقيل بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة ، وقيل : يوم الأربعاء لتسع مضين من ذي الحجة وذلك يوم عرفة سنة ستين ، وكان ذلك بعد مخرج الحسين من مكة قاصدا أرض العراق بيوم واحد ، وكان خروج الحسين من المدينة إلى مكة يوم الأحد لليلتين بقيتا من رجب سنة ستين ، ودخل مكة ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان ، فأقام بمكة بقية شعبان ورمضان وشوالا وذا القعدة ، ثم خرج منها لثمان مضين من ذي الحجة يوم الثلاثاء يوم التروية .