فصل ( ما دار بين علي وأصحابه بعد فراغهم من الخوارج ) قتال
قال الهيثم بن عدي في كتابه الذي جمعه في الخوارج ، وهو من أحسن ما صنف في ذلك ، قال : وذكر عيسى بن داب قال : لما انصرف علي ، رضي الله عنه ، من النهروان قام في الناس خطيبا ، فقال بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : أما بعد ، فإن الله قد أعز نصركم فتوجهوا من فوركم هذا إلى عدوكم من أهل الشام . فقاموا إليه فقالوا : يا أمير المؤمنين ، نفد نبلنا ، [ ص: 639 ] وكلت سيوفنا ، ونصلت أسنتنا ، فانصرف بنا إلى مصرنا حتى نستعد بأحسن عدتنا ، ولعل أمير المؤمنين يزيد في عدتنا عدة من فارقنا وهلك منا ; فإنه أقوى لنا على عدونا - وكان الذي تكلم بهذا - فبايعهم ، وأقبل بالناس حتى نزل الأشعث بن قيس الكندي بالنخيلة ، وأمرهم أن يلزموا معسكرهم ، ويوطنوا أنفسهم على جهاد عدوهم ، ويقلوا زيارة نسائهم وأبنائهم ، فأقاموا معه أياما مستمسكين برأيه وقوله ، ثم تسللوا حتى لم يبق معه منهم أحد إلا رءوس أصحابه ، فقام علي فيهم خطيبا ، فقال : الحمد لله فاطر الخلق وفالق الإصباح ، وناشر الموتى وباعث من في القبور ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، وأوصيكم بتقوى الله ، فإن أفضل ما توسل به العبد الإيمان والجهاد في سبيله وكلمة الإخلاص ; فإنها الفطرة ، وإقام الصلاة ; فإنها الملة ، وإيتاء الزكاة ; فإنها من فرائضه ، وصوم شهر رمضان ; فإنه جنة من عذابه ، وحج البيت ; فإنه منفاة للفقر مدحضة للذنب ، وصلة الرحم ; فإنها مثراة في المال ، منسأة في الأجل ، محبة في الأهل ، وصدقة السر ; فإنها تكفير للخطيئة ، وتطفئ غضب الرب ، وصنع المعروف ; فإنه يدفع ميتة السوء ، ويقي مصارع الهول ، أفيضوا في ذكر الله ; فإنه أحسن الذكر ، وارغبوا فيما وعد الله المتقين ; فإن وعد الله أصدق الوعد ، واقتدوا بهدي نبيكم ، صلى الله عليه وسلم ، فإنه أفضل الهدي ، واستنوا بسنته ; فإنها أفضل السنن ، وتعلموا كتاب الله ; فإنه أفضل الحديث ، وتفقهوا في الدين ; فإنه ربيع القلوب ، واستشفوا بنوره ; فإنه شفاء لما في الصدور ، وأحسنوا تلاوته ; فإنه [ ص: 640 ] أحسن القصص ، وإذا قرئ عليكم فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ، وإذا هديتم لعلمه فاعملوا بما علمتم به لعلكم تهتدون ; فإن العالم العامل بغير علم كالجاهل الحائر الذي لا يستقيم من جهله ، بل قد رأيت أن الحجة أعظم ، والحسرة أدوم على هذا العالم المنسلخ من علمه ، وضرره على هذا الجاهل المتحير في جهله ، وكلاهما حائر مضلل مثبور . لا ترتابوا فتشكوا ، ولا تشكوا فتكفروا ، ولا ترخصوا لأنفسكم فتذهلوا ، ولا تذهلوا في الحق فتخسروا ، ألا وإن من الحزم أن تثقوا ، ومن الثقة أن لا تغتروا ، وإن أنصحكم لنفسه أطوعكم لربه ، وإن أغشكم لنفسه أعصاكم لربه ، من يطع الله يأمن ويستبشر ، ومن يعص الله يخف ويندم ، سلوا الله اليقين ، وارغبوا إليه في العافية ، وخير ما دام في القلب اليقين ، إن عوازم الأمور أفضلها ، وإن محدثاتها شرها ، وكل محدثة بدعة وكل محدث مبتدع ، ومن ابتدع فقد ضيع ، وما أحدث محدث بدعة إلا ترك بها سنة ، المغبون من غبن دينه ، والمفتون من خسر نفسه ، وإن الرياء من الشرك ، وإن الإخلاص من العمل والإيمان . ومجالس اللهو تنسي القرآن ويحضرها الشيطان ، وتدعو إلى كل غي ، [ ص: 641 ] ومحادثة النساء تزيغ القلوب وتطمح لهن الأبصار ، وهن مصائد الشيطان ، فاصدقوا الله ; فإن الله مع من صدق ، وجانبوا الكذب ; فإن الكذب مجانب للإيمان ، ألا إن الصادق على شرف منجاة وكرامة ، وإن الكاذب على شرف ردى وهلكة وإهانة ، ألا وقولوا الحق تعرفوا به ، واعملوا به تكونوا من أهله ، وأدوا الأمانة إلى من ائتمنكم ، وصلوا أرحام من قطعكم ، وعودوا بالفضل على من حرمكم ، وإذا عاهدتم فأوفوا ، وإذا حكمتم فاعدلوا ولا تفاخروا بالآباء ، ولا تنابزوا بالألقاب ، ولا تمازحوا ، ولا يغتب بعضكم بعضا ، وأعينوا الضعيف والمظلوم والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب ، وارحموا الأرملة واليتيم ، وأفشوا السلام وردوا التحية على أهلها مثلها أو بأحسن منها . وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب [ المائدة : 2 ] . وأكرموا الضيف ، وأحسنوا إلى الجار ، وعودوا المرضى ، وشيعوا الجنائز ، وكونوا عباد الله إخوانا . أما بعد ، فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع ، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع ، وإن المضمار اليوم ، وغدا السباق ، وإن السبقة والغاية الجنة والنار ، [ ص: 642 ] ألا وإنكم في أيام مهل من ورائها أجل حثيث عجل ، فمن أخلص لله عمله في أيام مهله قبل حضور أجله ، فقد أحسن عمله ونال أمله ، ومن قصر عن ذلك فقد خسر عمله وخاب أمله ، وضره أمله ، ألا فاعملوا في الرغبة والرهبة ، فإن نزلت بكم رغبة فاشكروا الله واجمعوا معها رهبة ، وإن نزلت بكم رهبة فاذكروا الله واجمعوا معها رغبة ; فإن الله قد تأذن المسلمين بالحسنى ، ولمن شكر بالزيادة ، وإني لم أر مثل الجنة نام طالبها ، ولا كالنار نام هاربها ، ولا أكيس من مكتسب يكسب شيئا اليوم يدخره ليوم تنفع فيه الذخائر ، وتبلى فيه السرائر ، يجمع فيه المؤمن والكافر ، ألا وإنه من لا ينفعه الحق يضره الباطل ، ومن لا يستقم على الهدى يجر به الضلال ، ومن لا ينفعه اليقين يضره الشك ، ومن لا ينفعه حاضره فغاربه عنه أعوز وغائبه عنه أعجز ، ألا وإنكم قد أمرتم بالظعن ودللتم على الزاد فاعملوا على المراد ، ألا وإن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان ; طول الأمل واتباع الهوى ; فطول الأمل ينسي الآخرة ، واتباع الهوى يصد عن الحق ، ألا وإن الدنيا قد ترحلت مدبرة ، وإن [ ص: 643 ] الآخرة قد ترحلت مقبلة ، ولهما بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة إن استطعتم ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ; فإن اليوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل . وهذه خطبة عظيمة بليغة نافعة ، جامعة للخير ناهية عن الشر . وقد روي لها شواهد من وجوه أخرى متصلة ، ولله الحمد والمنة .
وقد ذكر ابن جرير أن عليا ، رضي الله عنه ، لما نكل أهل العراق عن الذهاب معه إلى الشام خطبهم ، فوبخهم وأنبهم وتوعدهم وتهددهم وتلا عليهم في الجهاد آيات من القرآن من سور متفرقة ، وحثهم على المسير إلى عدوهم فتأبوا على ذلك ، وخالفوه ولم يوافقوه ، واستمروا في بلادهم ، وانصرفوا عنه هاهنا . قيل : إن ذلك بسبب قتله الخوارج ; لأنهم كانوا قراباتهم وإخوانهم ، ويرونهم أفضلهم وخيرهم ; لعبادتهم وقراءتهم ، فتثاقلوا عنه وهجروه ، فدخل علي الكوفة في حالة الله بها عليم .