ولما دخل فصل الشتاء وانشمرت مراكب الإفرنج عن البلد خوفا من الهلاك بسبب اغتلام البحر سأل من في البلدة من المسلمين من السلطان أن يريحهم مما هم فيه من الحصر العظيم والمقاتلة ليلا ونهارا وصباحا ومساء سرا وجهرا وأن يرسل إلى البلد بدلهم فرق لهم السلطان وعزم على ذلك وكانوا قريبا من عشرين ألف مسلم ما بين أمير ومأمور فجهز جيشا آخر غيرهم ولم يكن ذلك برأي جيد ولكن ما قصد السلطان إلا خيرا وأن هؤلاء يدخلون البلد وهم جدد الهمم ولهم عزم قوي وهم في راحة بالنسبة إلى أولئك ولكن أولئك كانت لهم خبرة بالبلد وبالقتال وكان لهم صبر عظيم وقد تمرنوا على ما هم فيه من المصابرة للأعداء برا وبحرا وجهزت لهؤلاء سبع بطس فيها ميرة تكفيهم سنة كاملة فقدر الله تعالى وله الأمر من قبل ومن بعد أنها لما توسطت البحر واقتربت من الميناء هاجت ريح عظيمة في البحر فتلعبت بتلك البطس على عظمها فاختبطت واضطربت وتصادمت [ ص: 624 ] فتكسرت وغرقت وغرق ما كان فيها من الميرة وهلك من كان فيها من البحارة فدخل بسبب ذلك وهن عظيم على المسلمين واشتد الأمر جدا ومرض السلطان وازداد مرضا إلى مرضه - عافاه الله - وكان ذلك عونا للعدو المخذول على أخذ البلد ولا قوة إلا بالله وذلك في ذي الحجة من هذه السنة وكان المقدم على الداخلين إلى عكا الأمير سيف الدين علي بن أحمد بن المشطوب أيده الله .
وفي عكا فبادر اليوم السابع من ذي الحجة سقطت ثلمة عظيمة من سور الفرنج إليها فسبقهم المسلمون إلى سدها بصدورهم وقاتلوا عنها بنحورهم وما زالوا يمانعون عنها حتى بنوها أشد مما كانت وأقوى وأحسن وأبهى . في الجيشين المسلم والكافر فكان السلطان يقول في ذلك ووقع في هذه السنة وباء عظيم
اقتلوني ومالكا واقتلوا مالكا معي
واتفق موت ابن ملك الألمان في ثاني ذي الحجة وجماعة من كبراء الكندهرية وسادات الفرنج لعنهم الله فحزن الفرنج على ابن ملك الألمان حزنا عظيما وأوقدوا نارا عظيمة في كل خيمة وصار في كل يوم يهلك من الفرنج المائة والمائتان واستأمن إلى السلطان جماعة منهم من شدة ما هم فيه من الجوع والضيق والحصر وأسلم خلق كثير منهم ولله الحمد والمنة .وفي هذا الشهر قدم القاضي الفاضل من الديار المصرية على السلطان وكان [ ص: 625 ] قد طال شوق كل واحد منهما إلى صاحبه فأفضى كل منهما إلى الآخر ما كان يسره ويكتمه من الآراء التي فيها مصالح المسلمين وقدم وزير الصدق على السلطان الموفق والأمير المؤيد رحمهما الله تعالى .