فيها قلعة الجبل وإحاطة سور على القاهرة ومصر يشملهما جميعا ، فعمرت قلعة للملك لم يكن في الديار المصرية مثلها ولا على شكلها ، وولي عمارة ذلك الأمير أمر السلطان ببناء بهاء الدين قراقوش مملوك تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب .
وفيها كانت الرملة على المسلمين . وقعة
وفي جمادى الأولى منها سار السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب من مصر قاصدا غزو الفرنج ، فانتهى إلى بلاد الرملة فسبى وسلب وغنم وقسر وكسر وكسب ، ثم تشاغل جيشه بالغنائم ، وتفرقوا في القرى والمحال تفرق الهائم ، وبقي السلطان في طائفة من الجيش منفردا ، فهجمت عليه الفرنج في جحفل من المقاتلة ، فما سلم السلطان إلا بعد جهد جهيد ، ولله الحمد ، ثم تراجع الجيش بعد تفرقهم ، واجتمعوا عليه بعد أيام ، ووقعت الأراجيف في الناس بسبب ذلك ، وما صدق أهل الديار المصرية برؤيته بعدما بلغهم من الإرجاف والإرهاب ، وصار الأمر كما قيل :
[ ص: 523 ]
رضيت من الغنيمة بالإياب
ومع هذا دقت البشائر في البلدان فرحا بسلامة السلطان ، ولم تجر مثل هذه الوقعة إلا بعد عشر سنين ، وذلك يوم حطين والحمد لله رب العالمين ، وقد ثبت السلطان في هذه الوقعة ثباتا عظيما ، وأسر للملك المظفر تقي الدين عمر ابن أخي السلطان ولده شاهنشاه ، فبقي عندهم سبع سنين ، وقتل ابنه الآخر ، وكان شابا قد طر شاربه ، فحزن على المقتول والمفقود ، وصبر تأسيا بأيوب ، وناح كما ناح داود ، وأسر الفقيهان الأخوان ، ضياء الدين عيسى ، وظهير الدين ، فافتداهما السلطان بعد سنين بسبعين ألف دينار .وفيها تخبطت الدولة بحلب ، وقبض السلطان الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين على الخادم كمشتكين ، وألزمه بتسليم قلعة حارم وكانت له ، فأبى من ذلك ، فعلقه منكوسا ، ودخن تحت أنفه حتى مات من ساعته . وقصدت الفرنج حارما فامتنعت عليهم ، ثم سلمت إلى الملك الصالح .
وفيها جاء ملك كبير من ملوك الفرنج يروم أخذ الشام لغيبة السلطان واشتغال نوابه بلذاتهم .
قال العماد الكاتب : ومن شرط هدنة الفرنج أنه متى جاء ملك كبير من ملوكهم لا يمكنهم دفعه فإنهم يقاتلون معه ويؤازرونه وينصرونه ، فإذا انصرف [ ص: 524 ] عنهم عادت الهدنة كما كانت ; فقصد هذا الملك وجملة الفرنج معه مدينة حماة ، وصاحبها شهاب الدين محمود خال السلطان مريض ، ونائب دمشق ومن معه من الأمراء مشغولون بلذاتهم ، فكادوا يأخذون البلد ، ولكن هزمهم الله بعد أربعة أيام ، فانصرفوا إلى حارم فلم يتمكنوا من أخذها ، وكشفهم عنها الملك الصالح صاحب حلب وقد دفع إليهم من الأموال والأسارى ما طلبوه . وتوفي صاحب حماة الأمير شهاب الدين محمود بن تكش ، خال السلطان الناصر ، وتوفي قبله ولده بثلاثة أيام ، رحمهما الله .
ولما سمع الملك الناصر بنزول الفرنج على حارم خرج من مصر قاصدا بلاد الشام ; لغزو الفرنج - لعنهم الله تعالى - فكان دخوله إلى دمشق في الرابع والعشرين من شوال ، وصحبته العماد الكاتب ، وتأخر القاضي الفاضل بمصر ناويا أداء الحج في هذا العام ، تقبل الله منه .
وفيها جاء كتاب القاضي الفاضل إلى الناصر يهنئه بوجود مولود له ، وهو أبو سليمان داود ، وبه كمل له اثنا عشر ذكرا ، وقد ولد له بعده عدة أولاد ذكور أيضا ، فإنه توفي عن سبعة عشر ذكرا وابنة صغيرة اسمها مؤنسة ، التي تزوجها ابن عمها كما سيأتي بيان ذلك في موضعه ، إن شاء الله تعالى . الملك الكامل محمد بن العادل ،
وفي هذه السنة جرت اليهود والعامة ببغداد ، وكانت بسبب أن مؤذنا عند كنيسة فتنة عظيمة بين اليهود نال منه بعض اليهود بكلام ، فشتمه المسلم ، فاقتتلا ، [ ص: 525 ] فجاء المؤذن يشتكي منه إلى الديوان ، وتفاقم الحال ، وكثرت العوام ، وأكثروا الضجيج ، ولما كان يوم الجمعة منعت العامة إقامة الخطبة في بعض الجوامع ، وخرجوا من فورهم ، فنهبوا سوق العطارين الذي فيه اليهود ، وذهبوا إلى كنيسة اليهود فنهبوها ، ولم يتمكن الشرط من ردهم ، فأمر الخليفة بصلب بعض العامة ، فأخرج في الليل جماعة من الشطار الذين كانوا في الحبوس وقد وجب عليهم القتل فصلبوا ، فظن كثير من الناس أن هذا كان بسبب هذه الكائنة . فسكنت الفتنة ، ولله الحمد .
وفيها خرج وزير الخليفة عضد الدولة ابن رئيس الرؤساء ابن المسلمة قاصدا الحج ، وخرج الناس في خدمته ليودعوه ، فتقدم إليه ثلاثة من الباطنية في صورة فقراء ومعهم قصص ، فتقدم أحدهم ليناوله القصة فضربه بالسكين ضربات ، وهجم الثاني ، وكذلك الثالث فهبروه وجرحوا جماعة حوله ، وقتل الثلاثة من فورهم وحرقوا ، ورجع الوزير إلى منزله محمولا فمات في يومه ، وهذا الوزير هو الذي قتل ولدي الوزير ابن هبيرة وأعدمهما ، فسلط الله عليه من قتله ، وكما تدين تدان ، جزاء وفاقا . وما ربك بظلام للعبيد