ذكر أخذ دمشق من أيدي الفاطميين
ذكر في " كامله " أن ابن الأثير أفتكين غلام معز الدولة الذي كان قد خرج عن طاعته كما تقدم ، والتف عليه عساكر وجيوش من الديلم والترك والأعراب ، نزل في هذه السنة على دمشق ليأخذها من أيدي الفاطميين ، وكان عليها ريان الخادم من جهة المعز الفاطمي ، فلما نزل بظاهرها خرج إليه كبراؤها وشيوخها ، فذكروا ما هم فيه من الظلم والغشم ومخالفة الاعتقاد بسبب ملك الفاطميين عليهم ، وسألوه أن يصمم على أخذ البلد ليستنقذها منهم ، فعند ذلك صمم على أخذها ، ولم يزل حتى أخذها ، وأخرج ريان الخادم منها ، واستقل بأمرها ، وكسر أهل الشر بها ، ورفع أهل الخير ، ووضع العدل فيهم ، وقمع أهل اللعب واللهو ، وكف أيدي الأعراب الذين كانوا قد عاثوا في الأرض فسادا ، وأخذوا عامة المرج والغوطة ، ونهبوا أهلها .
[ ص: 359 ] ولما استقامت الأمور على يديه ، وصلح أمر أهل الشام عليه ، كتب إليه المعز الفاطمي من مصر يشكر سعيه ويطلبه إليه ; ليخلع عليه ويجعله نائبا من جهته ، فلم يجبه إلى ذلك وخاف غائلته ، وقطع خطبته من الشام وخطب ، ثم قصد للطائع العباسي صيدا وبها خلق من المغاربة عليهم ابن الشيخ ، وفيهم ظالم بن موهوب العقيلي - الذي كان نائبا على دمشق للمعز الفاطمي كما تقدم ، فأساء بهم السيرة - فحاصرهم ، ولم يزل حتى أخذ البلد منهم ، وقتل منهم نحوا من أربعة آلاف من سراتهم ، ثم قصد طبرية ففعل بأهلها مثل ذلك ، فعند ذلك عزم المعز الفاطمي على المسير إليه وقتاله .
فبينما هو يجمع له ويرتب الجيوش إذ توفي المعز بمصر في سنة خمس وستين كما سيأتي ، وقام بعده ولده العزيز ، فاطمأن عند ذلك أفتكين بالشام ، واستفحل أمره ، وقويت شوكته ، فتشاور المصريون في أمره ، فاتفق رأيهم على أن بعثوا جوهرا القائد إليه ، وذلك عن رأي الوزير يعقوب بن كلس ، فلما تجهز جوهر القائد لقصد الشام حلف أفتكين أهل دمشق على مناصرته ومناصحته ، فحلفوا له بذلك .
وجاء جوهر فحصر دمشق سبعة أشهر حصرا شديدا ، ورأى من شجاعة أفتكين ما بهره ، وحين طال الحال أشار من أشار من الدماشقة على أفتكين أن يكتب إلى الحسن بن أحمد القرمطي وهو بالأحساء ; ليجيء إليه ، فلما كتب إليه أقبل لنصره ، فلما سمع به جوهر بقدومه لم يمكنه أن يبقى بين عدوين من داخل البلد ومن خارجها ، فارتحل قاصدا الرملة فتبعه أفتكين والقرمطي في نحو من خمسين ألفا ، فتواقعوا عند نهر الطواحين على ثلاثة فراسخ من الرملة وحصروا جوهرا بالرملة ، فضاق حاله جدا من قلة الطعام والشراب حتى أشرف هو ومن معه على الهلاك ، فسأل أن يجتمع هو وأفتكين على ظهور الخيل ، فأجابه إلى ذلك ، فلم يزل يترفق [ ص: 360 ] له أن يطلقه ، ليرجع بمن معه من أصحابه إلى أستاذه شاكرا له مثنيا عليه الخير ، ولا يسمع من القرمطي رأيه فيه - وكان جوهر داهية - فأجابه إلى ذلك ، فندمه القرمطي ، وقال : الرأي أنا كنا نحصرهم حتى يموتوا عن آخرهم ، فإنه الآن سيذهب إلى سيده فيخبره ، ثم يخرجه إلينا ، ولا طاقة لنا به ، فكان الأمر كما قال ، فإنه لما أطلقه أفتكين من الحصر لم يكن له دأب إلا أنه حث العزيز على الخروج إلى أفتكين بنفسه وجيوشه ، فأقبل في جحافل أمثال الجبال وكثرة من الرجال والعدد والأثقال والأموال ، وعلى مقدمته جوهر القائد ، وجمع أفتكين والقرمطي الجيوش والأعراب وساروا إلى الرملة فاقتتلوا في محرم سنة سبع وستين .
ولما تواجهوا رأى العزيز من شجاعة أفتكين ما بهره فأرسل إليه يعرض عليه إن أطاعه ورجع إليه أن يجعله مقدم عساكره وأن يحسن إليه غاية الإحسان ، فترجل أفتكين عن فرسه بين الصفين ، وقبل الأرض نحو العزيز ، وأرسل إليه يقول : لو كان هذا قبل هذا الحال لأمكنني وسارعت وأطعت ، وأما الآن فلا ، ثم ركب فرسه وحمل على الميسرة ، ففرق شملها ، وبدد خيلها ورجلها ، فبرز عند ذلك العزيز من القلب ، وأمر الميمنة ، فحملت حملة صادقة ، فانهزم القرمطي وتبعه بقية الشاميين ، وركبت المغاربة أقفيتهم يقتلون ويأسرون من شاءوا ، وتحول العزيز فنزل خيام الشاميين بمن معه ، وأرسل السرايا وراءهم ، وجعل العزيز لا يؤتى بأسير إلا خلع على من جاء به ، وجعل لمن جاءه بأفتكين مائة ألف دينار .
فاتفق أن أفتكين عطش وهو منهزم عطشا شديدا ، فاجتاز بمفرج بن دغفل ، وكان صاحبه ، فاستسقاه فسقاه ماء وأنزله عنده في [ ص: 361 ] بيوته ، وأرسل إلى العزيز يخبره بأن الذي يطلب عنده ، فليحمل إليه الذهب ، فأرسل إليه بمائة ألف دينار وجاء من تسلمه منه ، فلما أحيط بأفتكين لم يشك أنه مقتول ، فما هو إلا أن حضر عند العزيز أكرمه غاية الإكرام واحترمه غاية الاحترام ، ورد إليه حواصله وأمواله لم يفقد منها شيئا ، وجعله من أخص أصحابه وأمرائه ، وأنزله إلى جانب منزله ، ورجع به إلى الديار المصرية مكرما معظما ، وأقطعه هنالك إقطاعات جزيلة ، وأرسل إلى القرمطي يعرض عليه أن يقدم عليه ويكرمه كما أكرم أفتكين ، فامتنع عليه وخاف على نفسه ، فأرسل إليه بعشرين ألف دينار وجعلها له في كل سنة يكف بها شره ، ولم يزل أفتكين مكرما عند العزير ، حتى وقع بينه وبين الوزير يعقوب بن كلس ، فعمل عليه حتى سقاه سما فمات ، وحين علم الخليفة بذلك غضب على الوزير ، وحبسه بضعا وأربعين يوما ، وأخذ منه خمسمائة ألف دينار ، ثم رأى أن لا غنى به عن الوزير ، فأخرجه من السجن وأعاده إلى الوزارة ، وذهب أفتكين في حال سبيله ، رحمه الله . هذا ملخص ما ذكره في كامله . ابن الأثير