[ ص: 131 ] ذكر خلافة المتقي أبي إسحاق إبراهيم بن المقتدر بالله
لما مات أخوه الراضي اجتمع القضاة والأعيان بدار بجكم ، واشتوروا فيمن يولون عليهم ، فاتفق رأيهم كلهم على المتقي لله إبراهيم هذا ، فأحضروه إلى دار الخلافة ، وأرادوا بيعته فصلى ركعتين صلاة الاستخارة ، وهو على الأرض لم يصعد إلى الكرسي بعد ، ثم صعد إلى السرير ، وبايعه الناس ، وكان ذلك يوم الأربعاء لعشر بقين من ربيع الأول من هذه السنة ، أعني سنة تسع وعشرين وثلاثمائة ، فلم يغير على أحد شيئا ، ولا غدر بأحد ، حتى ولا على سريته لم يغيرها ، ولم يتسر عليها .
وكان كما سمي المتقي لله ; كثير الصلاة والصيام والتعبد ، وقال : لا أريد أحدا من الجلساء ، حسبي المصحف نديمي ، لا أريد نديما غيره ، فقعد عنه الجلساء والندماء والتفوا على بجكم ، وكان يجالسهم فيحادثونه ويتناشدون عنده الأشعار ، فكان لا يفهم كثير شيء مما يقولون ; لعجمته ، وكان في جملتهم سنان بن ثابت الصابئ المتطبب ، وكان بجكم يشكو إليه قوة النفس الغضبية فيه ، فكان سنان يهذب من أخلاقه ويسكن جأشه ، ويروض نفسه حتى [ ص: 132 ] يسكن عن بعض ما كان يتعاطاه من سفك الدماء ، وكان المتقي لله حسن الوجه ، معتدل الخلق ، قصير الأنف ، أبيض مشربا حمرة ، وفي شعره شقرة وجعودة ، كث اللحية ، أشهل العينين ، أبي النفس ، لم يشرب النبيذ قط ، فالتقى فيه الاسم والفعل . ولله الحمد .
ولما استقر المتقي في الخلافة أنفذ الرسل والخلع إلى بجكم وهو بواسط ، ونفذت المكاتبات إلى الآفاق بولاية المتقي لله
وفي هذه السنة تحارب أبو عبد الله البريدي وبجكم بناحية الأهواز ، فقتل بجكم في الحرب ، واستظهر البريدي عليه ، وقوي أمره ، فاحتاط الخليفة على حواصل بجكم ، فكان في جملة ما أخذ من أمواله ألف ألف دينار ومائتا ألف دينار . وكانت أيام بجكم على بغداد سنتين وثمانية أشهر وتسعة أيام .
ثم إن البريدي حدثته نفسه ببغداد ، فأنفق الخليفة أموالا جزيلة في الجند ليمنعوه من ذلك ، وركب بنفسه ، فخرج إلى أثناء الطريق ليمنعه من ذلك ، فخالفه البريدي ، ودخل بغداد في ثاني رمضان ، ونزل بالشفيعي ، فلما تحقق المتقي ذلك بعث إليه يهنئه ، وأرسل إليه بالأطعمة ، وخوطب بالوزير ، ولم يخاطب بإمرة الأمراء ، فأرسل البريدي يطلب من الخليفة خمسمائة ألف دينار ، فامتنع الخليفة من ذلك ، فبعث يتهدده ويتوعده ويذكره ما حل بالمعتز والمستعين والمهتدي ، واختلفت الرسل بينهما ، ثم كان آخر ذلك أن بعث إليه [ ص: 133 ] الخليفة بذلك قهرا ، ولم يتفق اجتماع الخليفة والبريدي ببغداد حتى خرج البريدي منها إلى واسط وذلك أنه ثارت عليه الديالمة ، والتفوا على كبيرهم كورتكين ، وراموا حريق دار البريدي حين قبض المال من الخليفة ولم يعطهم شيئا ، وكانت البجكمية طائفة أخرى قد اختلفت معه أيضا ، وهم والديالم قد صاروا حزبين ، فانهزم البريدي من بغداد يوم سلخ رمضان ، فاستولى كورتكين على الأمور ببغداد ، ودخل إلى المتقي ، فقلده إمرة الأمراء ، وخلع عليه ، واستدعى المتقي لله علي بن عيسى وأخاه عبد الرحمن ، ففوض إلى عبد الرحمن تدبير الأمور من غير تسمية بوزارة ، ثم قبض كورتكين على رئيس الأتراك تكينك غلام بجكم وغرقه . ثم تظلمت العامة من الديلم ; أنهم يأخذون منهم دورهم ، فشكوا ذلك إلى كورتكين ، فلم يشكهم ، فمنعت العامة الخطباء أن يصلوا في الجوامع ، واقتتل الديلم والعامة ، فقتل من الفريقين خلق كثير وجم غفير .
وكان الخليفة قد كتب إلى أبي بكر محمد بن رائق صاحب الشام يستدعيه إليه ليخلصه من الديلم والبريدي ، فركب إلى بغداد في العشرين من رمضان ، ومعه جيش عظيم ، وقد صار إليه من الأتراك البجكمية خلق كثير ، وحين وصل إلى الموصل حاد عن طريقه ناصر الدولة بن حمدان ، فتراسلا ثم اصطلحا ، وحمل ابن حمدان إلى ابن رائق مائة ألف دينار ، فلما اقترب ابن رائق من بغداد خرج كورتكين في جيشه ليقاتله ، فدخل ابن رائق بغداد من غربيها ، ورجع كورتكين بجيشه من شرقيها ، ثم تصافوا ببغداد للقتال ، فساعدت العامة ابن رائق على كورتكين ، فانهزم الديلم ، وقتل منهم خلق كثير ، وهرب [ ص: 134 ] كورتكين فاختفى ، واستقر أمر ابن رائق على بغداد وخلع عليه الخليفة ، وركب هو وإياه في دجلة ، وظفر ابن رائق بكورتكين ، فأودعه السجن الذي في دار الخلافة .
قال : وفي يوم الجمعة الثاني عشر من جمادى الأولى حضر الناس لصلاة الجمعة ابن الجوزي بجامع براثا ، وقد كان المقتدر أحرق هذا المسجد ; لأنه كبس فوجد فيه جماعة من الشيعة يجتمعون فيه للسب والشتم ، فلم يزل خرابا حتى عمره بجكم في أيام الراضي ، ثم أمر المتقي بوضع منبر فيه كان عليه اسم الرشيد ، وصلى الناس فيه هذه الجمعة ، قال : فلم يزل تقام فيه إلى ما بعد سنة خمسين وأربعمائة .
قال : وفي جمادى الآخرة في ليلة سابعه كانت ليلة برد ورعد وبرق ، فسقطت القبة ابن الجوزي الخضراء من قصر المنصور ، وقد كانت هذه القبة تاج بغداد وعلم البلد ، ومأثرة من مآثر بني العباس عظيمة ، بنيت أول ملكهم ، وكان بين بنائها وسقوطها مائة وسبع وثمانون سنة .
وقال : وخرج التشرينان والكانونان من هذه السنة ولم تمطر ابن الجوزي بغداد فيها بشيء سوى مطرة واحدة لم يسل منها ميزاب ، فغلت الأسعار ببغداد [ ص: 135 ] حتى بيع الكر بمائة وثلاثين دينارا ، ووقع الفناء في الناس حتى كان الجماعة يدفنون في القبر الواحد من غير غسل ولا صلاة ، وبيع العقار والأثاث بأرخص الأسعار ، واشتري بالدرهم ما كان يساوي الدينار ، ورأت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامها ، وهو يأمرها بخروج الناس إلى الصحراء لصلاة الاستسقاء ، فأمر الخليفة بامتثال ذلك ، فصلى الناس واستسقوا ، فجاءت الأمطار ، فزادت الفرات شيئا لم ير مثله ، وغرقت العباسية ، ودخل الماء شوارع ببغداد ، فسقطت القنطرة العتيقة والجديدة ، وقطعت الأكراد على قافلة من خراسان الطريق ، فأخذوا منهم ما قيمته ثلاثة آلاف دينار ، وكان أكثر ذلك من أموال بجكم التركي .
وخرج الناس للحج ، في هذه السنة ، ثم رجعوا من أثناء الطريق ، بسبب رجل من العلويين قد ظهر بالمدينة النبوية ، ودعا إلى نفسه ، وخرج عن الطاعة .