في شوال منها كان مقتل المتوكل على الله على يدي ولده المنتصر ، وكان سبب ذلك أنه أمر ابنه الخليفة عبد الله المعتز الذي هو ولي العهد من بعده أن يخطب بالناس في يوم جمعة ، فأداها أداء عظيما بليغا ، فبلغ ذلك من المنتصر كل مبلغ ، وحنق على أبيه وأخيه ، ثم اتفق أن أحضره أبوه بين يديه فأهانه وأمر بضربه في رأسه وصفعه وصرح بعزله عن ولاية العهد من بعد أخيه ، فاشتد أيضا حنقه أكثر مما كان . فلما كان يوم عيد الفطر خطب الخليفة المتوكل على الله بالناس وعنده بعض التشكي من علة به ، ثم عدل إلى خيام قد ضربت له ; أربعة أميال في مثلها ، فنزل هناك ثم استدعى في يوم ثالث الشهر بندمائه ، وكان على عادته في سمره وحضرته وشربه ثم تمالأ ولده المنتصر وجماعة من الأمراء على الفتك به ، فدخلوا عليه في ليلة الأربعاء لأربع خلون من شوال - ويقال : من شعبان - من هذه السنة ، وهو على السماط ، فابتدروه بالسيوف فقتلوه ، ثم ولوا بعده ولده المنتصر على ما سنذكره .
[ ص: 451 ] وهذه المتوكل على الله ترجمة
جعفر ابن المعتصم بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ، أبو الفضل المتوكل . وأمه أم ولد يقال لها : شجاع . وكانت من سروات النساء سخاء وحزما . كان مولده بفم الصلح سنة سبع ومائتين ، وبويع له بالخلافة بعد أخيه الواثق في يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة لسنة ثنتين وثلاثين ومائتين كما تقدم . وروى الخطيب من طريقه عن عن يحيى بن أكثم محمد بن عبد الوهاب ، عن سفيان ، عن الأعمش عن موسى بن عبد الله بن يزيد ، عن عبد الرحمن بن هلال ، عن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : جرير بن عبد الله ، ثم أنشأ من حرم الرفق حرم الخير المتوكل يقول :
يمن والأناة سعادة فاستأن في رفق تلاق نجاحا لا خير في حزم بغير روية الرفق
والشك وهن إن أردت سراحا
وروى أن الخطيب البغدادي علي بن الجهم دخل على المتوكل وفي يده درتان يقلبهما ، فأنشده قصيدته التي يقول فيها :
[ ص: 453 ]
وإذا مررت ببئر عر وة فاسقني من مائها
بسر من رأى أمير عدل تغرف من بحره البحار
يرجى ويخشى لكل خطب كأنه جنة ونار
الملك فيه وفي بنيه ما اختلف الليل والنهار
يداه في الجود ضرتان عليه كلتاهما تغار
لم تأت منه اليمين شيئا إلا أتت مثله اليسار
وروى عن ابن عساكر علي بن الجهم قال : وقفت قبيحة حظية المتوكل بين يديه وقد كتبت على خدها بالغالية : جعفر . فتأمل ذلك ، ثم أنشأ يقول :
وكاتبة في الخد بالمسك جعفرا بنفسي محط المسك من حيث أثرا
لئن أودعت سطرا من المسك خدها لقد أودعت قلبي من الحب أسطرا [ ص: 454 ]
فيا من مناها في السريرة جعفر سقى الله من سقيا ثناياك جعفرا
ويا من لمملوك لملك يمينه مطيع له فيما أسر وأظهرا
وكان المتوكل محببا إلى رعيته ، قائما بالسنة فيها ، وقد شبهه بعضهم بالصديق في رده على أهل الردة ، حتى رجعوا إلى الدين ، حين رد مظالم وبعمر بن عبد العزيز بني أمية . وهو أظهر السنة بعد البدعة ، وأخمد البدعة بعد انتشارها واشتهارها ، فرحمه الله .
وقد رآه بعضهم في المنام بعد موته وهو جالس في نور ، فقال : [ ص: 455 ] آلمتوكل ؟ ! فقال : المتوكل . قال : فما فعل بك ربك ؟ قال : غفر لي . قلت : بماذا ؟ قال : بقليل من السنة أحييتها .
وروى الخطيب عن صالح بن أحمد أنه رأى في منامه ليلة مات المتوكل كأن رجلا يصعد به إلى السماء ، وقائلا يقول :
ملك يقاد إلى مليك عادل متفضل في العفو ليس بجائر
يا نائم العين في أقطار جثمان أفض دموعك يا عمرو بن شيبان
أما ترى الفتية الأرجاس ما فعلوا بالهاشمي وبالفتح بن خاقان
وافى إلى الله مظلوما فضج له أهل السماوات من مثنى ووحدان
وسوف تأتيكم أخرى مسومة توقعوها لها شأن من الشان
فابكوا على جعفر وارثوا خليفتكم فقد بكاه جميع الإنس والجان
وقد ذكرنا قريبا كيفية مقتله ، وأن ابنه محمدا المستنصر مالأ جماعة من الأمراء على قتله في ليلة الأربعاء أول الليل ، لأربع خلت من شوال من هذه السنة أعني سنة سبع وأربعين ومائتين بالمتوكلية ، وهي الماحوزة . وصلي عليه يوم الأربعاء ودفن بالجعفرية ، وله من العمر أربعون سنة ، وكانت مدة خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاثة أيام . وكان أسمر ، حسن العينين ، نحيف الجسم ، خفيف العارضين ، أقرب إلى القصر . والله سبحانه أعلم .