فيها بنو نمير باليمامة في الأرض فسادا ، فكتب عاثت قبيلة يقال لها : الواثق إلى بغا الكبير وهو مقيم بأرض الحجاز ، فحاربهم فقتل منهم جماعة ، وأسر منهم آخرين ، وهزم بقيتهم ، ثم التقى مع بني تميم وهو في ألفي فارس وهم في ثلاثة آلاف فكانت بينهم حروب طويلة ، ثم كان الظفر له عليهم آخرا ، وذلك في النصف من جمادى الآخرة ثم عاد بعد ذلك كله إلى بغداد ومعه من أعيان رءوس العرب في الأسر والقيود ، وقد قتل من أشرافهم في الوقائع المتقدم ذكرها ما ينيف على ألفي رجل من بني سليم ، ونمير ، وكلاب ، ومرة ، وفزارة ، وثعلبة ، وطيئ ، وتميم ، وغيرهم .
وفي هذه السنة أصاب الحجيج في الرجوع عطش شديد حتى بيعت الشربة بالدنانير الكثيرة ، ومات خلق كثير من العطش ، رحمهم الله .
[ ص: 325 ] وفيها أمر الواثق بترك جباية أعشار سفن البحر .
وفاة الخليفة بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور عبد الله ذي الدوانيق بن محمد الإمام بن علي السجاد بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي العباسي أبي جعفر هارون الواثق بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد
كان هلاكه في ذي الحجة من هذه السنة بعلة الاستسقاء فلم يقدر على حضور العيد عامئذ فاستناب في الصلاة بالناس قاضيه . وكانت وفاته لست بقين من ذي الحجة ، وذلك أنه قوي به الاستسقاء فأقعد في تنور قد أحمي له بحيث يمكن إجلاسه فيه ; ليسكن وجعه ، فلان عليه أمره بعض الشيء ، فلما كان من الغد أمر بأن يحمى أكثر من العادة فأجلس فيه ثم أخرج فوضع في محفة فحمل فيها وحوله أمراؤه ، ووزراؤه وقاضيه ، فمات وهو محمول فيها فما شعروا حتى سقط جبينه على المحفة وهو ميت فغمض القاضي عينيه بعد [ ص: 326 ] ذلك وهو الذي ولي غسله والصلاة عليه ، ودفنه في قصر الهادي ، وكان أبيض اللون مشربا حمرة ، جميلا ربعة حسن الجسم ، قاتم العين اليسرى ، فيها نكتة بيضاء ، وكان مولده سنة ست وتسعين ومائة بطريق أحمد بن أبي دواد الإيادي المعتزلي مكة فمات وهو ابن ست وثلاثين سنة ، وكانت مدة خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وخمسة أيام ، وقيل : سبعة أيام وثنتي عشرة ساعة . وكان قد جمع أصحاب النجوم في زمانه حين اشتدت علته ; لينظروا في مولده وما تقتضيه صناعة النجوم كم تدوم أيام دولته ، فاجتمع عنده من رءوسهم جماعة ; منهم الحسن بن سهل والفضل بن إسحاق الهاشمي ، وإسماعيل بن نوبخت ، ومحمد بن موسى الخوارزمي المجوسي القطربلي ، وسند صاحب محمد بن الهيثم ، وعامة من يتكلم في النجوم ، فنظروا في مولده ، وما يقتضيه الحال عندهم ، ثم أجمعوا أنه يعيش دهرا طويلا ، وقدروا له خمسين سنة مستقبلة فلم يلبث [ ص: 327 ] بعد قولهم إلا عشرة أيام حتى مات . ذكره الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري ، رحمه الله .
قال ابن جرير وذكر الحسين بن الضحاك أنه شهد الواثق بعد أن مات المعتصم بأيام ، وقد قعد مجلسا كان أول مجلس قعده ، فكان أول ما غني به في ذلك المجلس أن تغنت شارية ، جارية إبراهيم بن المهدي :
ما درى الحاملون يوم استقلوا نعشه للثواء أم للقاء فليقل فيك باكياتك ما شئ
ن صباحا وعند كل مساء
ودع هريرة إن الركب مرتحل وهل تطيق وداعا أيها الرجل
وروى أن الخطيب البغدادي الشاعر لما تولى دعبل بن علي الواثق عمد إلى طومار ، فكتب فيه أبيات شعر ، ثم جاء إلى الحاجب فدفعه إليه ، وقال : أقرئ أمير المؤمنين السلام ، وقل : هذه أبيات امتدحك بها دعبل . فلما فضها الواثق إذا فيها :
الحمد لله لا صبر ولا جلد ولا عزاء إذا أهل الهوى رقدوا
خليفة مات لم يحزن له أحد وآخر قام لم يفرح به أحد
فمر هذا ومر الشؤم يتبعه وقام هذا فقام الويل والنكد
قال الخطيب : وكان قد استولى على ابن أبي دؤاد الواثق ، وحمله على التشديد في المحنة ، ودعا الناس إلى القول بخلق القرآن . قال : ويقال : إن [ ص: 329 ] الواثق رجع عن ذلك قبل موته ، فأخبرني عبيد الله بن أبي الفتح ، أخبرنا أحمد بن إبراهيم بن الحسن ، ثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة ، حدثني حامد بن العباس ، عن رجل ، عن المهتدي أن الواثق مات ، وقد تاب من القول بخلق القرآن .
وروى أن الواثق دخل عليه يوما مؤدبه فأكرمه إكراما كثيرا فقيل له في ذلك ، فقال : هذا أول من فتق لساني بذكر الله ، وأدناني من رحمة الله .
وكتب إليه بعض الشعراء :
جذبت دواعي النفس عن طلب الغنى وقلت لها عفي عن الطلب النزر
فإن أمير المؤمنين بكفه مدار رحا الأرزاق دائبة تجري
ومن شعره قوله :
[ ص: 330 ]
هي المقادير تجري في أعنتها فاصبر فليس لها صبر على حال
تنح عن القبيح ولا ترده ومن أوليته حسنا فزده
ستكفى من عدوك كل كيد إذا كاد العدو ولم تكده
الموت فيه جميع الخلق مشترك لا سوقة منهم يبقى ولا ملك
ما ضر أهل قليل في تفاقرهم وليس يغني عن الأملاك ما ملكوا
وكانت وفاته بسر من رأى التي كان يسكنها في القصر الهاروني ، في يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة من هذه السنة أعني سنة ثنتين وثلاثين ومائتين عن ست وثلاثين سنة ، وقيل : ثنتين وثلاثين سنة . وكانت مدة خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وخمسة أيام ، وقيل : خمس سنين وشهرين وأحد وعشرين يوما ، وصلى عليه أخوه جعفر المتوكل على الله والله أعلم .
المتوكل على الله جعفر بن المعتصم بالله
بويع له بالخلافة بعد أخيه خلافة هارون الواثق ، وكانت بيعته وقت زوال الشمس من يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة ، وكانت الأتراك قد عزموا [ ص: 332 ] على تولية محمد ابن الواثق ، فاستصغروه فتركوه ، وعدلوا إلى جعفر هذا ، وكان عمره إذ ذاك ستا وعشرين سنة ، وكان الذي ألبسه خلعة الخلافة وهو أول من سلم عليه بالخلافة ، وبايعه الخاصة ، ثم العامة ، وكانوا قد اتفقوا على تسميته أحمد بن أبي دؤاد القاضي ، بالمنتصر بالله إلى صبيحة يوم الجمعة ، فقال أحمد بن أبي دؤاد : قد رأيت أن يلقب أمير المؤمنين بالمتوكل على الله . فاتفقوا على ذلك ، وكتب إلى الآفاق ، وأمر بعطاء الشاكرية من الجند ثمانية شهور ، وللمغاربة أربعة شهور ، ولغيرهم ثلاثة شهور ، واستبشر الناس به .
وقد كان المتوكل رأى في منامه في حياة أخيه هارون الواثق كأن شيئا نزل عليه من السماء مكتوب فيه : جعفر المتوكل على الله فعبرها فقيل له : هي الخلافة . فبلغ ذلك أخاه الواثق فسجنه حينا ، ثم أرسله .
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود أمير مكة شرفها الله .