هو أمير المؤمنين ، أبو إسحاق محمد المعتصم ابن أمير المؤمنين هارون الرشيد ابن أمير المؤمنين المهدي محمد بن أمير المؤمنين أبي جعفر عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ، يقال له : المثمن . لوجوه ؛ منها أنه ثامن ولد العباس ، ومنها أنه ثامن الخلفاء من ذريته ، ومنها أنه فتح ثماني فتوحات ؛ بلاد بابك على يد الأفشين وعمورية بنفسه ، والزط بعجيف ، وبحر البصرة وقلعة الأجراف ، وأعراب ديار ربيعة ، والشارك ، وفتح مصر بعد عصيانها ، وقتل ثمانية أعداء : بابك ، ومازايار ، وياطس الرومي ، والأفشين ، وعجيفا ، وقارن ، وقائد الرافضة ، ومنها أنه أقام في الخلافة ثماني سنين ، وثمانية أشهر ، وثمانية أيام . وقيل : ويومين . وأنه ولد سنة ثمانين ومائة في شعبان ، وهو الشهر الثامن ، وأنه توفي وله من [ ص: 284 ] العمر ثمانية وأربعون سنة ، ومنها أنه خلف ثمانية بنين وثماني بنات ، ومنها أنه دخل بغداد من الشام وهو خليفة في مستهل رمضان سنة ثماني عشرة ، ومائتين بعد استكمال ثمانية أشهر من السنة ، بعد موت أخيه المأمون بطرسوس ، كما تقدم .
قالوا : وكان أميا لا يحسن الكتابة ، وكان سبب ذلك أنه كان يتردد معه إلى الكتاب غلام ، فمات الغلام ، فقال له أبوه الرشيد : ما فعل غلامك ؟ قال : مات واستراح من الكتاب . فقال له أبوه الرشيد : وقد بلغ منك كراهة الكتاب إلى أن تجعل الموت راحة منه ؟ والله يا بني لا تذهب إلى الكتاب بعدها . فتركوه فكان أميا ، وقيل : بل كان يكتب كتابة ضعيفة .
وقد أسند من طريقه عن آبائه حديثين منكرين ؛ أحدهما في ذم الخطيب البغدادي بني أمية ، ومدح بني العباس من الخلفاء ، والثاني في النهي عن الحجامة يوم الخميس .
وذكر بسنده عن المعتصم أن ملك الروم كتب إليه كتابا يتهدده فيه ، [ ص: 285 ] فقال للكاتب : اكتب : قد قرأت كتابك ، وسمعت خطابك ، والجواب ما ترى لا ما تسمع ، " وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار " .
قال الخطيب : غزا المعتصم بلاد الروم في سنة ثلاث وعشرين ومائتين ، فأنكى نكاية عظيمة في العدو ، ونصب على عمورية المجانيق ، وأقام عليها حتى فتحها ودخلها فقتل فيها ثلاثين ألفا ، وسبى مثلهم ، وكان في سبيه ستون بطريقا ، وطرح النار في عمورية من سائر نواحيها فأحرقها وجاء ببابها إلى العراق وهو باق حتى الآن منصوب على أحد أبواب دار الخلافة مما يلي المسجد الجامع في القصر .
وروي عن أنه قال : ربما أخرج أحمد بن أبي داود القاضي ، المعتصم ساعده إلي ، وقال لي : عض يا أبا عبد الله بكل ما تقدر عليه . فأقول : إنه لا تطيب نفسي يا أمير المؤمنين . فيقول : إنه لا يضرني . فأكدم بكل ما أقدر عليه فلا يؤثر ذلك في يده .
قال : ومر يوما في خلافة أخيه بمخيم الجند ، فإذا امرأة تقول : ابني ابني . [ ص: 286 ] فقال لها : ما شأنك ؟ فقالت : ابني أخذه صاحب هذه الخيمة . فجاء إليه المعتصم ، فقال له : أطلق هذا الصبي . فامتنع عليه ، فقبض على جسده بيده ، فسمع صوت عظامه من تحت يده ، ثم أرسله فسقط ميتا ، وأمر بإخراج الصبي إلى أمه
ولما ولي الخلافة كان شهما في أيامه وله همة عالية ، ومهابة عظيمة جدا ، وقال بعضهم : إنما كانت همته في الحرب ، لا في البناء ، ولا في غيره .
وقال القاضي أحمد بن أبي داود : تصدق المعتصم على يدي ، ووهب ما قيمته مائة ألف ألف درهم . وقال غيره : كان المعتصم إذا غضب لا يبالي من قتل ولا ما فعل .
وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي : دخلت يوما على المعتصم وعنده قينة له تغنيه ، فقال لي : كيف تراها ؟ فقلت : يا أمير المؤمنين ، أراها تقهره بحذق ، وتختله برفق ، ولا تخرج من شيء إلا إلى أحسن منه ، [ ص: 287 ] وفي صوتها قطع شذور أحسن من نظم الدر على النحور . فقال : والله لصفتك لها أحسن منها ومن غنائها . ثم قال لابنه هارون الواثق ، ولي عهده من بعده : اسمع هذا الكلام .
وقد استخدم المعتصم من الأتراك خلقا عظيما كان له من المماليك الترك قريب من عشرين ألفا ، وتم له من آلات الحرب والدواب ما لم يتفق لغيره . ولما حضرته الوفاة جعل يقول حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون [ الأنعام : 44 ] وقال : لو علمت أن عمري قصير ما فعلت ما فعلت ، وقال : إني أخذت من بين هذا الخلق ، وجعل يقول : ذهبت الحيل ، ليست حيلة .
وروي عنه أنه قال في مرض موته : اللهم إني أخافك من قبلي ، ولا أخافك من قبلك ، وأرجوك من قبلك ، ولا أرجوك من قبلي .
وكانت وفاته بسر من رأى في يوم الخميس ضحى لتسع عشرة ليلة خلت [ ص: 288 ] من ربيع الأول من هذه السنة ، أعني سنة سبع وعشرين ومائتين ، وكان مولده يوم الاثنين لعشر خلون من شعبان سنة ثمانين ومائة ، وولي الخلافة في رجب سنة ثماني عشرة ومائتين . وكان المعتصم أبيض ، أصهب اللحية طويلها ، مربوعا ، ومشرب اللون ، أمه أم ولد اسمها ماردة وهو أحد أولاد ستة من أولاد الرشيد ، كل منهم اسمه محمد ؛ وهم أبو إسحاق المعتصم ، وأبو العباس الأمين ، وأبو عيسى ، وأبو أحمد ، وأبو يعقوب ، وأبو أيوب ، قاله وقد قام بالخلافة بعده ولده هشام بن الكلبي ، هارون الواثق .
وقد ذكر ابن جرير أن وزيره محمد بن عبد الملك بن الزيات رثاه فقال :
قد قلت إذ غيبوك واصطفقت عليك أيدي التراب والطين اذهب فنعم الحفيظ كنت على الد
نيا ونعم الظهير للدين لا جبر الله أمة فقدت
مثلك إلا بمثل هارون
أبو إسحاق مات ضحى فمتنا وأمسينا بهارون حيينا
لئن جاء الخميس بما كرهنا لقد جاء الخميس بما هوينا