حكاية غريبة
ذكر في كتابه " المنتظم " أن أبو الفرج ابن الجوزي المأمون بلغه أن البرامكة فيبكي عليهم ويندبهم ، فبعث من جاءه به ، فدخل عليه وقد يئس من الحياة ، فقال له : ويحك! ما يحملك على صنيعك هذا؟ فقال : يا أمير المؤمنين إنهم أسدوا إلى معروفا وخيرا كثيرا ، ولي خبر طويل . فقال : قل . قال : رجلا يأتي كل يوم إلى قبور أنا المنذر بن المغيرة من أهل دمشق ، كنت في نعمة عظيمة ، فزالت عني حتى أفضى بي الحال إلى أن بعت داري ، ولم يبق لي شيء فأشار بعض أصحابي علي بقصد البرامكة فأتيت بغداد ومعي نيف وعشرون امرأة وصبيا ، فأنزلتهن في مسجد ثم قصدت مسجدا أصلي فيه ، فإذا فيه جماعة لم أر أحسن منهم ، فجلست [ ص: 659 ] إليهم ، فجعلت أدير في نفسي كلاما أطلب به منهم قوتا للعيال ، فيمنعني من ذلك ذل السؤال ، فبينا أنا كذلك إذا بخادم قد أقبل فاستدعاهم ، فقاموا كلهم وقمت معهم ، فدخلوا دارا عظيمة ، فإذا الوزير يحيى بن خالد فيها ، فجلسوا حوله ، فعقد عقد ابنته عائشة على ابن عم له ، ونثروا علينا سحيق المسك وبنادق العنبر ، ثم جاءت الخدم إلى كل واحد من الجماعة بصينية من فضة فيها ألف دينار ، ومعها فتات المسك ، فأخذها القوم ونهضوا ، وبقيت بين يدي الصينية التي وضعوها لي ، وأنا أهاب أن آخذها من عظمتها عندي ، فقال لي بعض الحاضرين : ألا تأخذها وتقوم ؟ فمددت يدي ، فأخذتها فأفرغت ذهبها في جيبي وأخذت الصينية تحت إبطي وقمت وأنا خائف أن تؤخذ مني ، فجعلت أتلفت والوزير ينظر إلي وأنا لا أشعر ، فلما بلغت الستارة أمرهم فردوني ، فيئست من المال ، فلما رجعت قال لي : ما شأنك؟ فقصصت عليه خبري ، فبكى ثم قال لأولاده : خذوا هذا فضموه إليكم . فجاءني خادم ، فأخذ مني الذهب والصينية ، وأقمت عندهم عشرة أيام من ولد إلى ولد وخاطري كله عند عيالي ، ولا يمكنني الانصراف ، فلما انقضت العشرة جاءني خادم فقال : ألا تذهب إلى أهلك؟ فقلت : بلى والله . فقام يمشي أمامي ولم يعطني الذهب ، فقلت : يا ليت هذا كان قبل هذا . فسار يمشي أمامي إلى دار لم أر أحسن منها ، فإذا [ ص: 660 ] عيالي يتمرغون في الذهب والحرير فيها ، وقد وصل إليهم مائة ألف درهم وعشرة آلاف دينار ، وكتاب فيه تمليك الدار بما فيها ، وبقريتين جليلتين لهم ، فكنت مع البرامكة في أطيب عيش ، فلما أصيبوا أخذ مني عمرو بن مسعدة القريتين ، وألزمني بخراجهما ، فكلما لحقتني فاقة قصدت دورهم وقبورهم فبكيت عليهم . فأمر المأمون برد القريتين عليه وخراجهما . فبكى الشيخ بكاء شديدا ، فقال له المأمون : ألم أستأنف بك جميلا ؟ قال : بلى ، ولكن هو من بركة البرامكة . فقال المأمون : امض مصاحبا فإن الوفاء مبارك ، وحسن العهد من الإيمان .