قال أبو داود : ثنا محمد بن العلاء ، ثنا أبو بكر ، عن عاصم قال : سمعت الحجاج ، وهو على المنبر يقول : اتقوا الله ما استطعتم ليس فيها [ ص: 533 ] مثنوية واسمعوا وأطيعوا ليس فيها مثنوية لأمير المؤمنين عبد الملك ، والله لو أمرت الناس أن يخرجوا من باب المسجد فخرجوا من باب آخر لحلت لي دماؤهم وأموالهم ، والله لو أخذت ربيعة بمضر لكان ذلك لي من الله حلالا ، وما عذيري من عبد هذيل يزعم أن قرآنه من عند الله ، والله ما هي إلا رجز من رجز الأعراب ما أنزلها الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ، وعذيري من هذه الحمراء ، يزعم أحدهم يرمي بالحجر فيقول : إلى أن يقع الحجر حدث أمر . فوالله لأدعنهم كالأمس الدابر . قال : فذكرته للأعمش ، فقال : وأنا والله سمعته منه .
وروراه أبو بكر بن أبي خيثمة ، عن محمد بن يزيد ، عن عن أبي بكر بن عياش ، عاصم بن أبي النجود أنهما سمعا والأعمش ، الحجاج قبحه الله يقول ذلك ، وفيه : والله لو أمرتكم أن تخرجوا من هذا الباب ، فخرجتم من هذا الباب ، لحلت لي دماؤكم ، ولا أجد أحدا يقرأ على قراءة ابن أم عبد إلا ضربت عنقه ، ولأحكنها من المصحف ولو بضلع خنزير .
وروراه غير واحد عن بنحوه وفي بعض الروايات : والله لو أدركت عبد هذيل لضربت عنقه . وهذا من جراءة أبي بكر بن عياش الحجاج - قبحه الله - [ ص: 534 ] وإقدامه على الكلام السيئ والدماء الحرام . وإنما نقم على قراءة ابن مسعود رضي الله عنه لكونه خالف القراءة على المصحف الإمام ، الذي جمع الناس عليه عثمان ، والظاهر أن ابن مسعود رجع إلى قول عثمان وموافقيه ، والله أعلم .
وقال علي بن عبد الله بن مبشر ، عن عباس الدوري ، عن مسلم بن إبراهيم ، ثنا الصلت بن دينار ، سمعت الحجاج على منبر واسط يقول : رأس المنافقين ، لو أدركته لأسقيت الأرض من دمه . قال : وسمعته على منبر عبد الله بن مسعود واسط وتلا هذه الآية : وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي قال : والله إن كان سليمان لحسودا . وهذه جراءة عظيمة تفضي به إلى الكفر ، قبحه الله وأخزاه ، وأبعده وأقصاه .
ومن الطامات أيضا ما رواه أبو داود ، ثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني ، ثنا جرير ( ح ) . وحدثنا ثنا زهير بن حرب ، جرير ، عن المغيرة ، عن بزيع بن خالد الضبي ، قال : سمعت الحجاج يخطب ، فقال في خطبته : رسول أحدكم في حاجته أكرم عليه أم خليفته في أهله؟ فقلت في نفسي : لله علي أن لا أصلي خلفك صلاة أبدا ، وإن وجدت قوما يجاهدونك لأجاهدنك معهم . زاد إسحاق في حديثه : فقاتل في الجماجم حتى قتل . فإن صح هذا عنه فظاهره [ ص: 535 ] كفر إن أراد تفضيل منصب الخلافة على الرسالة ، أو أراد أن الخليفة من بني أمية أفضل من الرسول .
وقال الأصمعي : ثنا أبو عاصم النبيل ، ثنا أبو حفص الثقفي ، قال : خطب الحجاج يوما فأقبل عن يمينه فقال : ألا إن الحجاج كافر ، ثم أطرق فقال : إن الحجاج كافر . ثم أطرق فأقبل عن يساره فقال : ألا إن الحجاج كافر . فعل ذلك مرارا ، ثم قال : كافر يا أهل العراق باللات والعزى .
وقال حنبل بن إسحاق : ثنا هارون بن معروف ، ثنا ضمرة ، ثنا ابن شوذب ، عن مالك بن دينار قال : بينما الحجاج يخطبنا يوما ، إذ قال : الحجاج كافر . قلنا : ما له؟ أي شيء يريد؟ قال : الحجاج كافر بيوم الأربعاء والبغلة الشهباء . وقال الأصمعي : قال عبد الملك يوما : إنه ما من للحجاج أحد إلا وهو يعرف عيب نفسه ، فصف لي عيب نفسك . فقال : اعفني يا أمير المؤمنين . فأبى ، فقال : أنا لجوج حقود حسود . فقال عبد الملك : ما في الشيطان شر مما ذكرت . وفي رواية أنه قال : إذا بينك وبين إبليس نسب .
وبالجملة فقد كان الحجاج نقمة على أهل العراق بما سلف لهم من الذنوب ، والخروج على الأئمة ، وخذلانهم لهم ، وعصيانهم ومخالفتهم ، والافتيات [ ص: 536 ] عليهم .
قال يعقوب بن سفيان : حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح ، حدثني معاوية بن صالح ، عن شريح بن عبيد ، عن من حدثه ، قال : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فأخبره أن أهل العراق حصبوا أميرهم فخرج غضبان ، فصلى لنا صلاة ، فسها فيها حتى جعل الناس يقولون : سبحان الله سبحان الله . فلما سلم أقبل على الناس ، فقال : من هاهنا من أهل الشام؟ فقام رجل ، ثم قام آخر ، ثم قمت أنا ثالثا أو رابعا ، فقال : يا أهل الشام ، استعدوا لأهل العراق ، فإن الشيطان قد باض فيهم وفرخ ، اللهم إنهم قد لبسوا عليهم فالبس عليهم ، وعجل عليهم بالغلام الثقفي ، يحكم فيهم بحكم الجاهلية ، لا يقبل من محسنهم ، ولا يتجاوز عن مسيئهم . وقد رويناه في كتاب " مسند عمر بن الخطاب " من طريق أبي عذبة الحمصي ، عن عمر مثله .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن مالك بن دينار ، عن الحسن قال : قال علي بن أبي طالب اللهم كما ائتمنتهم فخانوني ونصحت لهم فغشوني ، فسلط عليهم فتى ثقيف الذيال الميال يأكل خضرتها ، ويلبس فروتها ، ويحكم فيها بحكم الجاهلية . قال : يقول الحسن : وما خلق الحجاج يومئذ .
ورواه معتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن أيوب ، عن مالك بن أوس بن [ ص: 537 ] الحدثان ، عن علي أنه قال : الشاب الذيال أمير المصرين ، يلبس فروتها ، ويأكل خضرتها ويقتل أشراف أهلها ، يشتد منه الفرق ، ويكثر منه الأرق ، ويسلطه الله على شيعته .
وقال الحافظ في " دلائل النبوة " : أخبرنا البيهقي أبو عبد الله الحافظ ، ثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، ثنا سعيد بن مسعود ، ثنا ، أنبأ يزيد بن هارون العوام بن حوشب ، حدثني حبيب بن أبي ثابت ، قال : قال علي لرجل : لا مت حتى تدرك فتى ثقيف . قيل له : يا أمير المؤمنين ، وما فتى ثقيف؟ قال : ليقالن له يوم القيامة : اكفنا زاوية من زوايا جهنم . رجل يملك عشرين أو بضعا وعشرين - سنة ، لا يدع لله معصية إلا ارتكبها ، حتى لو لم يبق إلا معصية واحدة وكان بينه وبينها باب مغلق لكسره حتى يرتكبها ، يقتل بمن أطاعه من عصاه .
وقال حدثنا الطبراني ، القاسم بن زكريا ، ثنا إسماعيل بن موسى السدي ، ثنا علي بن مسهر ، عن الأجلح ، عن الشعبي ، عن أم حكيم بنت عمر بن سنان الجدلية قالت : استأذن الأشعث بن قيس على علي فرده قنبر فأدمى أنفه ، فخرج علي فقال : ما لك وله يا أشعث؟ أما والله لو بعبد ثقيف [ ص: 538 ] تمرست لاقشعرت شعيرات استك . قيل له : يا أمير المؤمنين ، ومن عبد ثقيف؟ قال : غلام يليهم لا يبقي أهل بيت من العرب إلا ألبسهم ذلا . قيل : كم يملك؟ قال : عشرين إن بلغ .
وقال : أخبرنا البيهقي أنبأ الحاكم ، الحسين بن الحسن بن أيوب ، ثنا ثنا أبو حاتم الرازي ، عبد الله بن يوسف التنيسي ، ثنا هشام بن يحيى الغساني قال : قال عمر بن عبد العزيز لو جاءت كل أمة بخبيثها وجئنا لغلبناهم . وقال بالحجاج أبو بكر بن عياش ، عن عاصم بن أبي النجود أنه قال : ما بقيت لله عز وجل حرمة إلا وقد ارتكبها الحجاج .
وقد تقدم الحديث : ثقيف كذابا ومبيرا ، وقد ذكرنا شأن إن في المختار بن أبي عبيد ، وهو الكذاب المذكور في هذا الحديث ، وقد كان يظهر الرفض أولا ، ويبطن الكفر المحض ، وأما المبير فهو هذا ، وقد كان ناصبيا يبغض الحجاج بن يوسف عليا وشيعته في هوى آل مروان بني أمية ، وكان جبارا عنيدا مقداما على سفك الدماء بأدنى شبهة .
وقد روي عنه ألفاظ بشعة شنيعة ظاهرها الكفر كما قدمنا ، فإن كان قد تاب منها وأقلع عنها ، وإلا فهو باق في عهدتها ، ولكن قد يخشى أنها رويت عنه بنوع من زيادة عليه; فإن الشيعة كانوا [ ص: 539 ] يبغضونه جدا لوجوه ، وربما حرفوا عليه بعض الكلم ، وزادوا فيما يحكونه عنه بشاعات وشناعات .
وقد روينا عنه ، أنه كان يتدين بترك المسكر ، وكان يكثر تلاوة القرآن ، ويتجنب المحارم ، ولم يشتهر عنه شيء من التلطخ بالفروج ، وإن كان متسرعا في سفك الدماء . فالله تعالى أعلم بالصواب وحقائق الأمور وسائرها ، وخفيات الصدور وضمائرها .
وقال المعافى بن زكريا الجريري المعروف بابن طرارا البغدادي : ثنا محمد بن القاسم الأنباري ، ثنا أبي ، ثنا أحمد بن عبيد ، ثنا ثنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي ، عوانة بن الحكم الكلبي ، قال : دخل أنس بن مالك على فلما وقف بين يديه سلم عليه فقال له : إيه إيه يا الحجاج بن يوسف ، أنيس ، يوم لك مع علي ، ويوم لك مع ابن الزبير ، ويوم لك مع ابن الأشعث ، والله لأستأصلنك كما تستأصل الشأفة ، ولأدمغنك كما تدمغ الصمغة . فقال أنس : إياي يعني الأمير أصلحه الله؟ قال : إياك ، سك الله سمعك . قال أنس : إنا لله وإنا إليه راجعون ، والله لولا الصبية الصغار ما باليت [ ص: 540 ] أي قتلة قتلت ، ولا أي ميتة مت . ثم خرج من عند الحجاج فكتب إلى يخبره بما قال له عبد الملك بن مروان الحجاج ، فلما قرأ عبد الملك كتاب أنس استشاط غضبا ، وصفق عجبا ، وتعاظم ذلك من الحجاج ، وكان كتاب أنس إلى : عبد الملك بن مروان
بسم الله الرحمن الرحيم ، إلى أمير المؤمنين ، من عبد الملك بن مروان أنس بن مالك ، أما بعد; فإن الحجاج قال لي هجرا ، وأسمعني نكرا ، ولم أكن لذلك أهلا ، فخذ لي على يديه ، فإني أمت بخدمتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتي إياه ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته .
فبعث عبد الملك إلى إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر وكان مصادقا فقال له : دونك كتابي هذين فخذهما ، واركب البريد إلى للحجاج العراق ، وابدأ بأنس بن مالك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فادفع كتابي إليه ، وأبلغه مني السلام ، وقل له : يا أبا حمزة ، قد كتبت إلى الحجاج الملعون كتابا ، إذا قرأه كان أطوع لك من أمتك . وكان كتاب عبد الملك إلى أنس بن مالك :
بسم الله الرحمن الرحيم ، من ، إلى عبد الملك بن مروان أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما بعد; فقد قرأت كتابك ، وفهمت ما ذكرت من شكايتك الحجاج ، وما سلطته عليك ، ولا أمرته بالإساءة إليك ، فإن عاد لمثلها اكتب إلي بذلك أنزل به عقوبتي ، وتحسن لك معونتي ، والسلام .
فلما قرأ أنس كتابه وأخبر برسالته قال : جزى الله أمير المؤمنين عني خيرا ، وعافاه وكفاه ، وكافأه بالجنة ، فهذا كان ظني به والرجاء منه .
فقال إسماعيل بن عبيد الله لأنس : [ ص: 541 ] يا أبا حمزة ، إن الحجاج عامل أمير المؤمنين ، وليس بك عنه غنى ، ولا بأهل بيتك ، ولو جعل لك في جامعة ثم دفع إليك لقدر أن يضر وينفع ، فقاربه وداره; تعش معه بخير وسلام . فقال أنس : أفعل إن شاء الله . ثم خرج إسماعيل من عنده فدخل على الحجاج ، فلما رآه الحجاج قال : مرحبا برجل أحبه وكنت أحب لقاءه . فقال إسماعيل : أنا والله كنت أحب لقاءك في غير ما أتيتك به . فتغير لون الحجاج ، وقال : ما أتيتني به؟ قال : فارقت أمير المؤمنين وهو أشد الناس عليك غضبا ، ومنك بعدا . قال : فاستوى الحجاج جالسا مرعوبا فرمى إليه إسماعيل بالطومار ، فجعل الحجاج ينظر فيه مرة ويعرق ، وينظر إلى إسماعيل أخرى ، فلما نقضه قال : قم بنا إلى أبي حمزة نعتذر إليه ونترضاه . فقال له إسماعيل : لا تعجل . فقال : كيف لا أعجل ، وقد أتيتني بآبدة؟
وكان في الطومار : إلى : بسم الله الرحمن الرحيم ، من الحجاج بن يوسف أمير المؤمنين إلى عبد الملك بن مروان أما بعد; فإنك عبد طمت بك الأمور فسموت فيها ، وعدوت طورك ، وجاوزت قدرك ، وركبت داهية إدا ، وأردت أن تبورني ، فإن سوغتكها مضيت قدما ، وإن لم أسوغها [ ص: 542 ] رجعت القهقرى ، فلعنك الله عبدا أخفش العينين ، منقوص الجاعرتين ، أنسيت مكاسب آبائك الحجاج بن يوسف ، بالطائف ، وحفرهم الآبار ، ونقلهم الصخور على ظهورهم في المناهل؟ يا ابن المستفرمة بعجم الزبيب ، والله لأغمزنك غمز الليث الثعلب ، والصقر الأرنب ، وثبت على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ، فلم تقبل له إحسانه ، ولم تجاوز له إساءته ، جرأة منك على الرب عز وجل ، واستخفافا منك بالعهد ، والله لو أن اليهود والنصارى رأت رجلا خدم عزير بن عزرا وعيسى ابن مريم لعظمته وشرفته وأكرمته ، فكيف وهذا أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني سنين ، يطلعه على سره ، ويشاوره في أمره ، ثم هو مع هذا بقية من بقايا أصحابه ، فإذا قرأت كتابي هذا فكن أطوع له من خفه ونعله ، وإلا أتاك مني سهم مثكل بحتف قاض ، ولكل نبأ مستقر ، وسوف تعلمون .
وقد تكلم ابن طرارا على ما وقع في هذا الكتاب من الغريب ، وكذلك وغيرهما من أئمة اللغة . والله أعلم . ابن قتيبة
[ ص: 543 ] وقال : ثنا الإمام أحمد عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن الزبير يعني ابن عدي قال : أنس بن مالك ما نلقى من الحجاج ، فقال : اصبروا; فإنه لا يأتي عليكم عام أو يوم إلا والذي بعده شر منه ، حتى تلقوا ربكم عز وجل ، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم . وهذا رواه شكونا إلى عن البخاري ، محمد بن يوسف ، عن عن سفيان وهو الثوري عن الزبير بن عدي ، أنس ، قال : لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه الحديث . قلت : ومن الناس من يروي هذا الحديث بالمعنى فيقول : كل عام ترذلون . وهذا اللفظ لا أصل له ، وإنما هو مأخوذ من معنى هذا الحديث ، والله أعلم .
وقد قال عن سفيان الثوري إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي قال : يأتي على الناس زمان يصلون فيه على الحجاج . وقال أبو نعيم ، عن يونس بن أبي إسحاق ، عن قال : قال أبي السفر الشعبي : والله لئن بقيتم لتمنون الحجاج . وقال الأصمعي : قيل للحسن : إنك تقول : الآخر شر من الأول . وهذا عمر بن عبد العزيز بعد الحجاج . فقال الحسن : لا بد للناس من تنفيسات .
وقال بعث ميمون بن مهران الحجاج إلى الحسن وقد هم به ، فلما قام بين يديه ، قال : يا حجاج ، كم بينك وبين آدم من أب؟ قال : كثير . قال : فأين [ ص: 544 ] هم ؟ قال : ماتوا . قال : فنكس الحجاج رأسه ، وخرج الحسن .
وقال أيوب السختياني : إن الحجاج أراد قتل الحسن مرارا ، فعصمه الله منه . وقد ذكر له معه مناظرات ، على أن الحسن لم يكن ممن يرى الخروج عليه ، وكان ينهى أصحاب ابن الأشعث عن ذلك ، وإنما خرج معهم مكرها ، كما قدمنا ، وكان الحسن يقول : إنما هو نقمة ، فلا تقابل نقمة الله بالسيف ، وعليكم بالصبر والسكينة والتضرع .
وقال ابن دريد ، عن الحسن بن الخضر ، عن ابن عائشة قال : أتي برجل من الوليد بن عبد الملك الخوارج ، فقيل له : ما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى خيرا ، قال : فعثمان؟ فأثنى خيرا ، حتى قيل له : فما تقول في عبد الملك بن مروان؟ فقال : الآن جاءت المسألة ، ما أقول في رجل الحجاج خطيئة من خطاياه؟
وقال الأصمعي ، عن علي بن مسلم الباهلي ، قال : أتي الحجاج بامرأة من الخوارج ، فجعل يكلمها وهي لا تنظر إليه ، ولا ترد عليه كلاما ، فقال لها بعض الشرط : يكلمك الأمير وأنت معرضة عنه؟ فقالت : إني لأستحي من الله أن أنظر إلى من لا ينظر الله إليه . فأمر بها فقتلت .
وقد ذكرنا في سنة أربع وتسعين كيفية مقتل الحجاج وما دار بينهما من الكلام والمراجعة . لسعيد بن جبير ،
[ ص: 545 ] وقد قال أبو بكر بن أبي خيثمة : ثنا أبو ظفر ، ثنا جعفر بن سليمان ، عن بسطام بن مسلم ، عن قتادة قال : قيل : خرجت على لسعيد بن جبير الحجاج؟ قال : إني والله ما خرجت عليه حتى كفر . ويقال : إنه لم يقتل بعده إلا رجلا واحدا اسمه ماهان ، وكان قد قتل قبله خلقا كثيرا ، أكثرهم ممن خرج مع ابن الأشعث .
وقال أبو عيسى الترمذي : ثنا أبو داود سليمان بن سلم البلخي ، ثنا النضر بن شميل ، عن قال : أحصوا ما قتل هشام بن حسان ، الحجاج صبرا فبلغ مائة ألف وعشرين ألفا . قال الأصمعي : ثنا أبو عاصم ، عن عباد بن كثير ، عن قحذم ، قال : أطلق سليمان بن عبد الملك في غداة واحدة أحدا وثمانين ألف أسير ، وعرضت السجون بعد الحجاج فوجدوا فيها ثلاثة وثلاثين ألفا ، لم يجب على أحد منهم قطع ولا صلب ، وكان في من حبس أعرابي وجد يبول في أصل ربض مدينة واسط ، وكان في من أطلق ، فأنشأ يقول :
إذا نحن جاوزنا مدينة واسط خرينا وصلينا بغير حساب
وقد كان الحجاج مع هذا العنف الشديد لا يستخرج من خراج العراق كبير أمر . قال ابن أبي الدنيا : ثنا وإبراهيم الحربي سليمان بن أبي شيخ ، ثنا [ ص: 546 ] صالح بن سليمان ، قال : قال عمر بن عبد العزيز : لو تخابثت الأمم وجئنا لغلبناهم ، وما كان يصلح لدنيا ولا لآخرة ، لقد ولي بالحجاج العراق وهو أوفر ما يكون في العمارة ، فأخس به حتى صيره إلى أربعين ألف ألف ، ولقد أدي إلي في عامي هذا ثمانون ألف ألف ، وإن بقيت إلى قابل رجوت أن يؤدى إلي ما أدي إلى عمر بن الخطاب ; مائة ألف ألف وعشرة آلاف ألف .وقال : ثنا أبو بكر بن المقرئ أبو عروبة ، ثنا عمرو بن عثمان ، ثنا أبي سمعت جدي قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة : بلغني أنك تستن بسنن الحجاج فلا تستن بسننه ، فإنه كان يصلي الصلاة لغير وقتها ، ويأخذ الزكاة من غير حقها ، وكان لما سوى ذلك أضيع .
وقال يعقوب بن سفيان : ثنا سعيد بن أسد ، ثنا ضمرة ، عن الريان بن مسلم قال : بعث عمر بن عبد العزيز بآل أبي عقيل أهل بيت الحجاج إلى صاحب اليمن ، وكتب إليه : أما بعد ، فإني قد بعثت بآل أبي عقيل وهم شر بيت في العرب ، ففرقهم في العمل على قدر هوانهم على الله وعلينا ، وعليك السلام . وإنما نفاهم .
وقال الأوزاعي : سمعت القاسم بن مخيمرة يقول : كان الحجاج ينقض [ ص: 547 ] عرى الإسلام . وذكر حكاية . وقال أبو بكر بن عياش ، عن عاصم : لم يبق لله حرمة إلا ارتكبها . وقال الحجاج بن يوسف عن يحيى بن عيسى الرملي ، الأعمش : اختلفوا في الحجاج ، فسألوا فقال : تسألوني عن الشيخ الكافر؟ مجاهدا ،
وروى عن ابن عساكر ، الشعبي أنه قال : الحجاج مؤمن بالجبت والطاغوت ، كافر بالله العظيم . كذا قال ، والله أعلم . وقال الثوري ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، قال : عجبا لإخواننا من أهل العراق; يسمون الحجاج مؤمنا ! وقال الثوري ، عن ابن عون : سمعت أبا وائل يسأل عن الحجاج : أتشهد أنه من أهل النار؟ قال : أتأمروني أن أشهد على الله العظيم . وقال الثوري ، عن منصور ، سألت إبراهيم عن لعن الحجاج أو بعض الجبابرة ، فقال : أليس الله يقول : ألا لعنة الله على الظالمين ( هود : 18 ) ؟ وبه; قال إبراهيم : وكفى بالرجل عمى أن يعمى عن أمر الحجاج .
وقال : لأنا سلام بن أبي مطيع أرجى مني للحجاج لأن لعمرو بن عبيد; الحجاج قتل [ ص: 548 ] الناس على الدنيا ، أحدث للناس بدعة ، فقتل الناس بعضهم بعضا . وقال وعمرو بن عبيد الزبرقان : سببت الحجاج يوما عند أبي وائل ، فقال : لا تسبه; لعله قال يوما : اللهم ارحمني . فيرحمه ، إياك ومجالسة من يقول : أرأيت أرأيت . وقال عوف : ذكر الحجاج عند فقال : مسكين محمد بن سيرين ، أبو محمد; إن يعذبه الله عز وجل فبذنبه ، وإن يغفر له فهنيئا له ، وإن يلق الله بقلب سليم ، فقد أصاب الذنوب من هو خير منه . فقيل له : ما القلب السليم؟ قال : أن تعلم أن الله حق ، وأن الساعة حق قائمة ، وأن الله يبعث من في القبور .
وقال : ثنا أبو قاسم البغوي أبو سعيد ، ثنا أبو أسامة ، قال : قال رجل : اشهد على لسفيان الثوري الحجاج وعلى أبي مسلم أنهما في النار . قال : لا ، إذا أقرا بالتوحيد . وقال الرياشي : حدثنا عباس الأزرق ، عن السري بن يحيى قال : مر الحجاج في يوم جمعة فسمع استغاثة ، فقال : ما هذا؟ فقيل له : أهل السجون يقولون : قتلنا الحر . فقال : قولوا لهم : اخسئوا فيها [ ص: 549 ] ولا تكلمون . قال : فما عاش بعد ذلك إلا أقل من جمعة . وقال بعضهم : رأيته وهو يأتي الجمعة ، وقد كاد يهلك من العلة . وقال الأصمعي : لما مرض الحجاج أرجف الناس بموته ، فقال في خطبته : إن طائفة من أهل الشقاق والنفاق نزغ الشيطان بينهم ، فقالوا : مات الحجاج ، ومات الحجاج . فمه ، وهل يرجو الحجاج الخير إلا بعد الموت؟ والله ما يسرني أن لا أموت وأن لي الدنيا وما فيها ، وما رأيت الله رضي التخليد إلا لأهون خلقه عليه إبليس ، قال الله له : إنك من المنظرين [ الأعراف : 15 ] . فأنظره إلى يوم الدين ، ولقد دعا الله العبد الصالح ، فقال : وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي [ ص : 35 ] . فأعطاه الله ذلك إلا البقاء ، فما عسى أن يكون أيها الرجل ، وكلكم ذلك الرجل ، كأني والله بكل حي منكم ميتا ، وبكل رطب يابسا ، ثم نقل في ثياب أكفانه إلى ثلاثة أذرع طولا في ذراع عرضا ، فأكلت الأرض لحمه ، ومصت صديده ، وانصرف الحبيب من ولده يقسم الحبيب من ماله ، إن الذين يعقلون يعقلون ما أقول . ثم نزل .
وقال إبراهيم بن هشام بن يحيى بن يحيى الغساني ، عن أبيه ، عن جده ، عن عمر بن عبد العزيز أنه قال : ما حسدت الحجاج عدو الله على شيء [ ص: 550 ] حسدي إياه على حبه القرآن وإعطائه أهله ، وقوله حين حضرته الوفاة : اللهم اغفر لي ، فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل . وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا علي بن الجعد ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون ، عن محمد بن المنكدر قال : كان عمر بن عبد العزيز يبغض الحجاج ، فنفس عليه بكلمة قالها عند الموت : اللهم اغفر لي فإنهم زعموا أنك لا تفعل . قال : وحدثني بعض أهل العلم ، قال : قيل للحسن : إن الحجاج قال عند الموت كذا وكذا قال : أقالها؟ قالوا : نعم . قال : عسى . وقال أبو العباس المبرد ، عن الرياشي ، عن الأصمعي قال : لما حضرت الحجاج الوفاة أنشأ يقول :
يا رب قد حلف الأعداء واجتهدوا بأنني رجل من ساكني النار
أيحلفون على عمياء ويحهم ما علمهم بعظيم العفو غفار
إن الموالي إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرما قد شبت في الرق فاعتقني من النار
اليوم يرحمنا من كان يغبطنا واليوم يأمننا من كان يخشانا
وروى غير واحد أن الحسن لما بشر بموت الحجاج سجد شكرا لله تعالى ، وكان مختفيا فظهر ، وقال : اللهم أمته فأذهب عنا سنته . وقال : لما أخبرت حماد بن أبي سليمان بموت إبراهيم النخعي الحجاج بكى من الفرح . وقال أبو بكر بن أبي خيثمة : ثنا سليمان بن أبي شيخ ، ثنا صالح بن سليمان ، قال : قال زياد بن الربيع الحارثي لأهل السجن : يموت الحجاج في مرضه هذا في ليلة كذا وكذا . فلما كانت تلك الليلة لم ينم أهل السجن فرحا ، جلسوا ينتظرون حتى سمعوا الواعية ، وذلك ليلة سبع وعشرين من شهر رمضان ، وقيل : كان ذلك لخمس بقين من رمضان . وقيل : في شوال من هذه [ ص: 552 ] السنة . وكان عمره إذ ذاك خمسا وخمسين سنة; لأن مولده كان عام الجماعة سنة أربعين . وقيل : بعدها بسنة . وقيل : قبلها بسنة . فالله أعلم .
مات بواسط ، وعفي قبره ، وأجري عليه الماء لكيلا ينبش ويحرق . والله أعلم .
وقال الأصمعي : ما كان أعجب الحجاج ، ما ترك إلا ثلاثمائة درهم . وقال الواقدي : ثنا حدثني عبد الله بن محمد بن عبيد ، عبد الرحمن بن عبد الله بن قريب ، ثنا عمي قال : زعموا أن الحجاج مات ولم يترك إلا ثلاثمائة درهم ، ومصحفا ، وسيفا ، وسرجا ، ورحلا ، ومائة درع موقوفة . وقال : حدثني عمي شهاب بن خراش يزيد بن حوشب قال : بعث إلي أبو جعفر المنصور فقال : حدثني بوصية . فقلت : اعفني يا أمير المؤمنين . فقال : حدثني بها . فقلت : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أوصى به الحجاج بن يوسف أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن الحجاج بن يوسف ، محمدا عبده ورسوله ، وأنه لا يعرف إلا طاعة عليها يحيا ، وعليها يموت ، وعليها يبعث ، وأوصى بتسعمائة درع حديد; ستمائة منها لمنافقي أهل الوليد بن عبد الملك العراق يغزون بها ، وثلاثمائة للترك . قال : فرفع أبو جعفر رأسه إلى أبي العباس الطوسي وكان قائما على رأسه فقال : هذه والله الشيعة لا شيعتكم .
وقال الأصمعي عن أبيه قال : رأيت الحجاج في المنام فقلت : ما فعل الله بك؟ فقال : قتلني بكل قتلة قتلت بها إنسانا . قال : ثم رأيته بعد الحول فقلت : [ ص: 553 ] يا أبا محمد ، ما صنع الله بك؟ فقال : يا ماص بظر أمه ، أما سألت عن هذا عام أول؟ وقال القاضي أبو يوسف كنت عند الرشيد فدخل عليه رجل ، فقال : يا أمير المؤمنين ، رأيت الحجاج البارحة في النوم ، قال : في أي زي رأيته؟ قال : في زي قبيح . فقلت له : ما فعل الله بك؟ فقال : ما أنت وذاك يا ماص بظر أمه؟ فقال هارون : صدقت والله ، أنت رأيت الحجاج حقا ، ما كان أبو محمد ليدع صرامته حيا وميتا .
وقال حنبل بن إسحاق : ثنا هارون بن معروف ، ثنا ضمرة ، ثنا ابن شوذب ، عن أشعث الحداني . قال : رأيت الحجاج في المنام في حالة سيئة ، فقلت : يا أبا محمد ما صنع بك ربك؟ قال : ما قتلت أحدا قتلة إلا قتلني بها . فقلت : ثم مه . قال : ثم أمر بي إلى النار . قلت : ثم مه . قال : ثم أرجو ما يرجو أهل لا إله إلا الله . قال : وكان ابن سيرين يقول : إني لأرجو له . فبلغ ذلك الحسن فقال : أما والله ليخلفن الله رجاءه فيه .
وقال أحمد بن أبي الحواري : سمعت أبا سليمان الداراني يقول : كان لا يجلس مجلسا إلا ذكر فيه الحسن البصري الحجاج فدعا عليه ، قال : فرآه [ ص: 554 ] في منامه فقال له : أنت الحجاج؟ قال : أنا الحجاج . قال : ما فعل الله بك؟ قال : قتلت بكل قتيل قتلته ، ثم عزلت مع الموحدين . قال : فأمسك الحسن بعد ذلك عن شتمه . والله أعلم .