[ ص: 358 ] الآية السادسة
قوله تعالى : { إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم } .
فيها أربع مسائل : المسألة الأولى : في : سبب نزولها
روى ابن شهاب عن ، عروة بن الزبير ، وسعيد بن المسيب ، وعلقمة بن وقاص عن حديث وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا ، فبرأها الله مما قالوا ، وكل حدثني بطائفة من الحديث ، وبعض حديثهم يصدق بعضا ، وإن كان بعضهم أوعى له من بعض . عائشة
فالذي حدثني عروة عن أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : { عائشة : فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي ، وخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما نزل الحجاب ، فأنا أحمل في هودجي ، وأنزل فيه ، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك ، وقفل ، ودنونا من عائشة المدينة قافلين ، آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل ، فمشيت حتى جاوزت الجيش . فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي ، فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع ، فالتمست عقدي ، وحبسني ابتغاؤه ، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي ، فاحتملوا هودجي ، فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت ، وهم يحسبون أني فيه . وكان النساء إذ ذاك خفافا ، لم يثقلهن اللحم ، إنما يأكلن العلقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل [ ص: 359 ] وساروا فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش ، فجئت منازلهم ، وليس بها داع ولا مجيب . فأممت منزلي الذي كنت به ، وظننت أنهم سيفقدونني ، فيرجعون إلي . فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت . وكان ثم الذكواني من وراء الجيش ، فادلج ، فأصبح عند منزلي ; فرأى سواد إنسان نائم ، فعرفني حين رآني ، وكان يراني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه ، حين عرفني ، فخمرت وجهي بجلبابي ، ووالله ما كلمني كلمة ، وما سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، حتى أناخ راحلته ، فوطئ على يديها ، فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة ، حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك من هلك . وكان الذي تولى الإفك صفوان بن المعطل السلمي عبد الله بن أبي ابن سلول . فقدمنا المدينة ، فاشتكيت حين قدمت شهرا ، والناس يفيضون في قول ولا أشعر بشيء من ذلك ، ويريبني في وجعي أني لا أرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي . إنما كان يدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : كيف تيكم ؟ ثم ينصرف ، فذلك الذي يريبني منه ، ولا أشعر بالشر ، حتى خرجت بعدما نقهت ، فخرجت مع أصحاب الإفك أم مسطح قبل المناصع ، وهو متبرزنا ، وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط ، فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا . فانطلقت أنا وأم مسطح ، وهي ابنة أبي رهم بن عبد مناف ، وأمها بنت صخر بن عامر ، خالة ، وابنها أبي بكر الصديق ، فأقبلت أنا مسطح بن أثاثة وأم مسطح قبل بيتي ، وقد فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسطح في مرطها ، فقالت : تعس مسطح ، [ ص: 360 ] فقلت لها : بئس ما قلت ، أتسبين رجلا شهد بدرا ، قالت : أي هنتاه ، ألم تسمعي ما قال ، قالت : قلت لها : وما قال ؟ قالت : فأخبرتني بقول أهل الإفك . قالت : فازددت مرضا على مرضي . قالت : فلما رجعت إلى بيتي ، ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ، ثم قال : كيف تيكم ، فقلت : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ قالت : وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما . قالت : فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أبوي ، فقلت لأمي : يا أمتاه ، ما يتحدث الناس ؟ قالت : يا بنية ; هوني عليك ، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ، ولها ضرائر ، إلا أكثرن عليها . قالت : فقلت : سبحان الله ، ولقد تحدث الناس بهذا ، فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، حتى أصبحت أبكي ; فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، علي بن أبي طالب ، حين استلبث الوحي ، يستأمرهما في فراق أهله . فأما وأسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله . وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود ; فقال : يا رسول الله ، أهلك ، ولا نعلم إلا خيرا . وأما أسامة بن زيد فقال : يا رسول الله ; لم يضيق الله عليك والنساء سواها ، كثير واسأل الجارية تصدقك . قالت : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب بريرة ، فقال : يا بريرة ، هل رأيت من شيء يريبك ؟ قالت بريرة : لا والذي بعثك بالحق ، إن رأيت عليها أمرا قط أغمصه أكثر من أنها جارية حديثة السن ، تنام عن عجين أهلها ، فتأتي الداجن فتأكله . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر يومئذ من عبد الله بن أبي ابن سلول . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر : يا معشر المسلمين ; من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي ؟ فوالله ما علمت من أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي . [ ص: 361 ] فقام سعد بن معاذ الأنصاري ، فقال : يا رسول الله ; أنا أعذركم منه ، إن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك . فقام وهو سيد سعد بن عبادة الخزرج وكان فينا قبل ذلك صالحا ، ولكن احتملته الحمية ، فقال : كذبت لعمر الله ، والله لا تقتله ، ولا تقدر على قتله . فقام لسعد بن معاذ ، وهو ابن عم أسيد بن حضير ، فقال لسعد بن معاذ : كذبت والله لنقتلنه ; فإنك منافق ، تجادل عن المنافقين . فثار الحيان لسعد بن عبادة الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر ، فلم يزل رسول الله يخفضهم حتى سكتوا ، وسكت . قالت : فمكثت يومي ذلك ، لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم . فأصبح أبواي عندي ، وقد مكثت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع ، يظنان أن البكاء فالق كبدي . قالت : فبينما هما جالسان عندي ، وأنا أبكي ، فاستأذنت علي امرأة من الأنصار ، فأذنت لها ، فجلست تبكي معي . قالت : فبينما نحن كذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم . ثم جلس . قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل قبلها . وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني . قالت : فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس . ثم قال : أما بعد يا فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه . قالت : فلما قضى رسول الله مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة . فقلت لأبي : أجب رسول الله فيما قال . قال : فوالله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم . قالت : فقلت لأمي : أجيبي رسول الله . قالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم . [ ص: 362 ] قلت ، وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن : إني والله لقد علمت أنكم سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به . فلئن قلت لكم : إني بريئة ، والله يعلم أني بريئة لا تصدقوني ; ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة ، لتصدقونني . والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا قول أبي عائشة يوسف : { فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } . قالت : ثم تحولت فاضطجعت على فراشي . قالت : وأنا حينئذ أعلم أني بريئة ، وأن الله سيبرئني ببراءتي . ولكن ، والله ما كنت أظن أنه ينزل في قرآن يتلى ، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بآية تتلى ، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا في النوم يبرئني الله بها . قالت : فوالله ما رام رسول الله مكانه ، وما خرج أحد من أهل البيت ، حتى أنزل الله عليه ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء ، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق ، وهو في يوم شات من ثقل القول عليه . فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سري عنه وهو يضحك ، فكان أول كلمة تكلم بها : أبشري يا أما الله فقد برأك . قالت أمي : قومي إليه . فقلت : والله لا أقوم إليه ، ولا أحمد إلا الله ، وأنزل الله : { عائشة إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم } العشر الآيات كلها . فلما أنزل الله هذا في براءتي قال وكان ينفق على أبو بكر الصديق لقرابته منه وفقره : والله لا أنفق على مسطح بن أثاثة مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال . فأنزل الله عز وجل : { لعائشة ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم } . قال أبو بكر : بلى والله ; إني أحب أن يغفر الله لي ; فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفقها عليه ، وقال : والله لا أنزعها منه أبدا . [ ص: 363 ] قالت وكان رسول الله يسأل عائشة عن أمري ; قال : يا زينب بنت جحش زينب ، ماذا علمت ؟ وماذا رأيت ؟ فقالت : يا رسول الله ; أحمي سمعي وبصري ، وما علمت إلا خيرا } . قالت : وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع ، وطفقت أختها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه . قالت حمنة تحارب لها ، فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك .