ثم جاء في أواخر المئة السابعة رجل له فضل ذكاء واطلاع، ولم يجد شيخا يهديه، وهو على مذهبهم، وهو جسور متجرد لتقرير مذهبه، ويجد أمورا بعيدة، فبجسارته يلتزمها، فقال بقيام الحوادث بذات الرب سبحانه وتعالى، وأن الله سبحانه وتعالى ما زال فاعلا، وأن التسلسل ليس بمحال فيما مضى، كما هو سيأتي .
وشق العصا، وشوش عقائد المسلمين، وأغرى بينهم، ولم يقتصر على العقائد في علم الكلام حتى تعدى وقال: إن السفر لزيارة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- معصية، وقال: إن الطلاق الثلاث لا يقع، وإن من حلف بطلاق امرأته وحنث لا يقع عليه طلاق، واتفق العلماء على حبسه الحبس الطويل، فحبسه السلطان ومنعه من الكتابة في الحبس، وألا يدخل عليه بدواة، ومات في الحبس. ثم حدث من أصحابه من يشيع عقائده ويعلم مسائله ويلقي ذلك إلى الناس سرا ويكتمه جهرا، فعم الضرر بذلك حتى وقفت في هذا الزمان على قصيدة نحو ستة آلاف بيت يذكر فيها عقائده وعقائد غيره، ويزعم بجهله أن عقائده عقائد أهل الحديث، فوجدت هذه القصيدة تصنيفا في علم الكلام الذي نهى العلماء من النظر فيه لو كان حقا، وفي تقرير للعقائد الباطلة فيه، وبرع بها، وزيادة على ذلك، وهي حمل العوام على تكفير كل من سواه، وسوى طائفته؛ فهذه ثلاثة أمور، هي مجامع ما تضمنته هذه القصيدة .
والأول من الثلاث حرام; لأن النهي عن علم الكلام -إن كان- نهي تنزيه فيما تدعو الحاجة إلى الرد على المبتدعة فيه، فهو نهي تحريم فيما لا تدعو الحاجة إليه، فكيف فيما هو باطل؟
والثاني من العلماء مختلفون في التكفير به، ولم ينته إلى هذا الحد، أما مع هذه المبالغة ففي بقاء الخلاف فيه نظر .
وأما الثالث فنحن نعلم بالقطع أن هؤلاء الطوائف الثلاثة الشافعية والمالكية والحنفية وموافقيهم من الحنابلة مسلمون، وليسوا بكافرين، فالقول بأن جميعهم كفار وحمل الناس على ذلك كيف لا يكون كفرا؟ وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: ولضرورة أوجبت بأن بعض من كفرهم مسلم، والحديث [ ص: 12 ] اقتضى أنه يبوء بها أحدهما، فيكون القائل هو الذي باء بها، ثم حكى رد إمام الحرمين على السنجري وأطال في العبارة، وقد اقتصرنا على القدر المذكور؛ لأني لست بصدد بيان اعتقادهم والرد على أقوالهم، وله محل غير هذا، والله أعلم . "إذا قال المسلم لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما".