إلا أن يكون نبيا فإن عادة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام خرق العادة فيجوز لهم ذلك كما سألوا نزول المائدة من السماء وخروج الناقة من الصخرة الصماء أو يكون وليا له مع الله تعالى عادة بذلك فهو جار على عادته فلا يعد ذلك من الفريقين قلة أدب أو لا يكون وليا ويسأل خرق العادة ويكون معنى سؤاله أن يجعله وليا من أهل الولاية حتى يستحق خرق العادة فهذه الأقسام الثلاثة ليست حراما ، وأما المحرم فله أمثلة : ( القسم الثاني ) من المحرم الذي لا يكون كفرا أن يسأل الداعي من الله تعالى المستحيلات العادية
( الأول ) أن ، وقد دلت العادة على استحالة ذلك . يسأل الله تعالى الاستغناء عن التنفس في الهواء [ ص: 269 ] ليأمن الاختناق على نفسه
( الثاني ) أن لينتفع بقواه وحواسه وأعضائه أبد الدهر ، وقد دلت العادة على استحالة ذلك . يسأل الله تعالى العافية من المرض أبد الدهر
( الثالث ) أن ، وقد دلت العادة على استحالة ذلك فطالب ذلك مسيء الأدب على الله تعالى ، وكذلك يسأل الله تعالى الولد من غير جماع أو الثمار من غير أشجار وغراس فإن عادة الله تعالى جارية قطعا بوقوع بعض الأنفس في الشدائد بل لا تكاد نفس تسلم من شدة في مدة حياتها ، وكذلك قول الداعي اللهم لا ترم بنا في شدة وهو كثير في العرف ، وكذلك قول الداعي خرق الله العادة في بقائك لا يجوز لأن من المحال أن يحصل هذا المدعو به لهذا الداعي فلا بد أن يقصد بهذا العموم الخصوص إذ لا بد أن يفوت هذا الداعي رتبة النبوة ومرتبة الملائكة ودرجات الأنبياء في الجنة ، ولا بد أن يدركه بعض الشرور ولو سكرات الموت ووحشة القبر فلا بد أن يقصد بهذا العموم الخصوص وقس على هذه نظائرها [ ص: 270 ] بل يجب على كل عاقل أن يفهم عوائد الله تعالى في تصرفاته في خلقه وربطه المسببات بالأسباب في الدنيا والآخرة مع إمكان صدورها عن قدرته بغير تلك الأسباب أو بغير سبب ألبتة بل رتب الله تعالى مملكته على نظام ووضعها على قانون قضاه وقدره { قوله أعطنا خير الدنيا والآخرة واصرف عنا شر الدنيا والآخرة لا يسأل عما يفعل } .
فإذا سأل الداعي من الله تعالى تغيير مملكته ونقض نظامه وسلوك غير عوائده في ملكه كان مسيئا الأدب عليه عز وجل بل ذلك سوء أدب على أدنى الملوك بل الولاة ، ولذلك عاب العلماء وغلطوا جماعة من العباد حيث فهم يعتقدون أنهم سائرون إلى الله تعالى وهم ذاهبون عنه ظانين أن هذه الحالة هي حقيقة التوكل وأن ما عداها ينافي الاعتماد على الله تعالى وهذا غلط عظيم فقد دخل سيد المتوكلين توسطوا القفار من غير زاد ولججوا في البحار في زمن الهول في غير الزمن المعتاد طالبين من الله تعالى خرق عوائده لهم في هذه الأحوال محمد رسول الله مكة محفوفا بالخيل والرجل والكراع والسلاح في كتيبته الخضراء مظاهرا بين درعين [ ص: 271 ] على رأسه مغفر من حديد ، وقال في أول أمره من يعصمني حتى أبلغ رسالة ربي وكان في آخر عمره عند أكمل أحواله مع ربه يدخر لعياله قوت سنة وهو سيد المتوكلين وتحقيق هذا الباب أن تعلم أن التوكل اعتماد القلب على الله تعالى فيما يطلبه من خير أو يكرهه من ضير لأجل [ ص: 272 ] أنه المستولي بقدرته وإرادته على سائر الكائنات من غير مشارك له في ذلك { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده } ومع ذلك فله عوائد في ملكه رتبها بحكمته فمقتضى شمول قدرته انقطاع القلب عن غيره ومقتضى سلوك أدبه التماس فضله من عوائده .
وقد انقسم الخلق في هذا المقام ثلاثة أقسام : قسم عاملوا الله تعالى بمقتضى شمول قدرته للخير والشر فحصلوا على حقيقة التوكل وأعرضوا عن الأسباب ففاتهم الأدب الواجب الاتباع . وقسم لاحظوا الأسباب واستولت على قلوبهم فحجبتهم عن الله تعالى فهؤلاء فاتهم التوكل والأدب وهذا هو المهيع العام الذي هلك فيه أكثر الخلائق ، وقسم عاملوا الله تعالى بمقتضى شمول قدرته وعوائده في مملكته فهؤلاء جامعون بين التوكل والأدب وهذا مقام الأنبياء وخواص العلماء والأولياء والأصفياء . واعلم أن قليل الأدب خير من كثير من العمل ولذلك هلك إبليس وضاع أكثر عمله بقلة أدبه فنسأل الله السلامة [ ص: 273 ] في الدنيا والآخرة ، وقال الرجل الصالح لابنه يا بني اجعل عملك ملحا وأدبك دقيقا أي ليكن استكثارك من الأدب أكثر من استكثارك من العمل لكثرة جدواه ونفاسة معناه ويدل على تحريم قوله تعالى { طلب خرق العوائد ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } أي لا تركبوا الأخطار التي دلت العادة على أنها مهلكة وقوله تعالى { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } أي الواقية لكم من الحاجة إلى السؤال والسرقة فإنهم كانوا يسافرون إلى الجهاد والحج بغير زاد فربما وقع بعضهم في إحدى المفسدتين المذكورتين فأمرهم الله تعالى بالتزام العوائد وحرم عليهم تركها فإن المأمور به منهي عن ضده بل أضداده .
وقد قيل لبعضهم إن كنت متوكلا على الله ومعتمدا عليه وواثقا بقضائه وقدره فألق نفسك من هذا الحائط فإنه لا يصيبك إلا ما قدر لك فقال إن الله خلق عباده ليجربهم ويمتحنهم لا ليجربوه ويمتحنوه إشارة إلى سلوك الأدب مع الله تعالى جعلنا الله تعالى من أهل الأدب معه ومع عباده حتى نلقاه بمنه وكرمه