( الفرق الحادي والأربعون والمائتان بين قاعدة المعصية التي هي كفر وقاعدة ما ليس بكفر ) :
اعلم أن النهي يعتمد المفاسد كما أن الأوامر تعتمد المصالح فأعلى رتب المفاسد الكفر ، وأدناها الصغائر والكبائر متوسطة بين المرتبتين ، وأكثر التباس الكفر إنما هو بالكبائر فأعلى رتب الكبائر يليها أدنى رتب الكفر ، وأدنى رتب الكبائر يليها أعلى رتب الصغائر [ ص: 115 ] وأصل الكفر إنما هو انتهاك خاص لحرمة الربوبية إما بالجهل بوجود الصانع أو صفاته العلى ويكون الكفر بفعل أو كرمي المصحف في القاذورات [ ص: 116 ] أو السجود للصنم ، ومباشرة أحوالهم أو التردد للكنائس في أعيادهم بزي النصارى فقولنا انتهاك خاص احتراز من الكبائر والصغائر فإنها انتهاك ، وليست كفرا وسيأتي بيان هذا الخصوص بعد هذا إن شاء الله تعالى . وجحد ما علم من الدين بالضرورة كجحد الصلاة والصوم ، ولا يختص ذلك بالواجبات والقربات بل لو جحد بعض الإباحات المعلومة بالضرورة كفر كما لو [ ص: 117 ] جحد ما علم من الدين بالضرورة ، ولا يعتقد أن جاحد ما أجمع عليه يكفر على الإطلاق بل لا بد أن يكون المجمع عليه مشتهرا في الدين حتى صار ضروريا فكم من المسائل المجمع عليها إجماعا لا يعلمه إلا خواص الفقهاء قال إن الله تعالى لم يبح التين ، ولا العنب بل قد جحد أصل الإجماع جماعة كبيرة من فجحد مثل هذه المسائل التي يخفى الإجماع فيها ليس كفرا الروافض والخوارج ، ولم أر أحدا قال بكفرهم من حيث إنهم جحدوا أصل الإجماع وسبب ذلك أنهم بذلوا جهدهم في أدلته فما ظفروا بها كما ظفر بها الجمهور فكان ذلك عذرا في حقهم . كالنظام
كما أن لا نكفره لعذره بعدم الاطلاع ، وإن كنا نكفر بذلك الجحد غيره وبهذا التقريب نجيب عن سؤال السائل كيف تكفرون متجدد الإسلام إذا قدم من أرض الكفر وجحد في مبادئ أمره بعض شعائر الإسلام المعلومة لنا من الدين بالضرورة ، ولا تكفرون جاحد المسائل المجمع عليها وكيف يكون الفرع أقوى من الأصل ؟ . والجواب بأن نقول إنا لم نكفر بالمجمع عليه من حيث هو مجمع عليه بل من حيث الشهرة المحصلة للضرورة فمتى انضافت هذه الشهرة للإجماع كفر جاحد المجمع عليه ، وإذا لم تنضف لم نكفره وعلى هذا التقرير لم يجعل الفرع أقوى من الأصل ، وإنما يلزم ذلك أن لو كفرنا به من حيث هو مجمع عليه لا من حيث هو مشتهر فمن جاحد أصل الإجماع ؟ لا نكفره من حيث إنه مجمع عليه فإن انعقاد الإجماع فيه إنما يعلمه خواص [ ص: 118 ] الفقهاء أو الفقهاء دون غيرهم ، وألحق جحد إباحة الفرائض الأشعري بالكفر إرادة الكفر أو كبناء الكنائس ليكفر فيها ، ومنه قتل نبي مع اعتقاده صحة رسالته ليميت شريعته ؛ لأنه إرادة لبقاء الكفر . تأخير إسلام من أتى ليسلم على يديك فتشير عليه بتأخير الإسلام
ولا يندرج في إرادة الكفر وإن كان فيه إرادة الكفر ؛ لأنه ليس [ ص: 119 ] مقصودا فيه انتهاك حرمة الله تعالى بل إذاية المدعو عليه ، وليس منه أيضا اختيار الإمام عقد الجزية على الأسارى على القتل الموجب لمحو الكفر من قلوبهم وفي عقد الجزية إرادة استمرار الكفر في قلوبهم فهو فيه إرادة الكفر ؛ لأن مقصوده توقع الإسلام منهم أو من ذراريهم إذا بقوا أحياء وفي تعجيل القتل عليهم سد باب الإيمان منهم ومن ذريتهم فالمقصود توقع الإيمان وحصول الكفر وقع بالعرض فهو مشروع مأمور به واجب عند تعيين مقتضيه ويثاب عليه الإمام والفاعل له بخلاف الدعاء [ ص: 120 ] بسوء الخاتمة فهو منهي عنه ويأثم قائله ، وإن لم يكفر بذلك . الدعاء بسوء الخاتمة على من تعاديه
واستشكل بعض العلماء الفرق بين في أن الأول كفر دون الثاني ، وإن كان الساجد في الحالتين معتقدا ما يجب لله تعالى ، وما يستحيل ، وما يجوز عليه ، وإنما أراد التشريك في السجود وهو يعتقد بذلك التقرب إلى الله تعالى كما يعتقده الساجد للوالد وقد قالت السجود للشجرة والسجود للوالد عبدة الأوثان { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } [ ص: 121 ] مع أن القاعدة أن إنما هو بعظم المفسدة وصغرها لاشتراك الجميع في المفسدة والنهي والتحريم ، وما بين هاتين الصورتين من المفسدة التي نعلمها ما يقتضي الكفر في إحداهما دون الأخرى وقد أمر الله تعالى الملائكة بالسجود الفرق بين الكفر والكبيرة لآدم فسجدوا له ، ولم يكن قبلة على أحد القولين بل هو المقصود بالتعظيم بذلك السجود ، ولم يقل أحد إن الله تعالى أمر هنالك بما نهى عنه من الكفر ، ولا أنه أباح الكفر لأجل آدم ، ولا أن في السجود لآدم مفسدة تقتضي كفرا .
ولو فعل من غير أمر ربه ، ولا يمكن أن يقال إن الأمر والنهي عنهما سببا المفاسد والمصالح [ ص: 122 ] فإن نهى عن السجود كان مفسدة ، وإن أمر به كان مصلحة ؛ لأن هذا يلزم منه الدور ؛ لأن المفسدة تكون حينئذ تابعة للنهي مع أن النهي يتبع المفسدة فيكون كل واحد منهما تابعا لصاحبه فيلزم الدور بل الحق أن المفسدة يتبعها النهي ، وما لا مفسدة فيه لا يكون منهيا عنه واستقراء الشرائع يدل على ذلك فإن السرقة لما كان فيها ضياع المال نهى عنها ، ولما كان في القتل فوات الحياة نهى عنه ولما كان في الزنا مفسدة اختلاط الأنساب نهى عنه ، ولما كان في الخمر ذهاب العقول نهى عنه فلا جرم لما صار الخمر خلا ذهب عنه النهي ولما كان عصيرا لا يفسد العقل لم يكن منهيا عنه فالاستقراء دل على أن المفاسد والمصالح سابقة على الأوامر والنواهي ، والثواب [ ص: 123 ] والعقاب تابع للأوامر والنواهي فما فيه مفسدة ينهى عنه فإذا فعل حصل العقاب ، وما فيه مصلحة أمر به فإذا فعل حصل الثواب فالثواب والعقاب في الرتبة الأولى فلو علل الأمر والنهي بالثواب والعقاب لزم تقدم الشيء على نفسه برتبتين ولذلك يقول الأغبياء من الطلبة مصلحة هذا الأمر أنه يثاب عليه فيعللون بالثواب والعقاب وهو غلط [ ص: 124 ]
وأما ( أحدها ) ما لم نؤمر بإزالته أصلا ، ولم نؤاخذ ببقائه ؛ لأنه لازم لنا لا يمكن الانفكاك عنه وهو جلال الله تعالى وصفاته التي لم تدل عليها الصنعة ، ولم يقدر العبد على تحصيله بالنظر فعفا عنه لعجزنا عنه ، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم { الجهل بالله تعالى عشرة أقسام } وقول لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك الصديق العجز عن درك الإدراك إدراك [ ص: 125 ] وقسم ) أجمع المسلمون على أنه كفر قال في كتاب الشفاء انعقد الإجماع على تكفير من القاضي عياض فإن جهل الصفة ، ولم ينفها كفره جحد أن الله تعالى عالم أو متكلم أو غير ذلك من صفاته الذاتية الطبري وغيره وقيل لا يكفر ، وإليه رجع الأشعري ؛ لأنه لم يصمم على اعتقاد [ ص: 126 ] ذلك ويعضده حديث الحديث . وحديث { القائل لئن قدر الله علي ليعذبني السوداء لما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أين الله قالت في السماء } قال ، ولو كوشف أكثر الناس على الصفات لم يعلمها ( قلت ) فنفي الصفات والجزم بنفيها هو المجمع عليه ، وليس معناه نفي العلم أو الكلام أو الإرادة ونحو ذلك بل العالم والمتكلم والمريد فمن نفى أصل المعنى وحكمه هو المجمع على كفره وهذا هو مذهب جمع كثير من الفلاسفة والدهرية دون أرباب الشرائع .