[ ص: 519 ] فصل فيما ظن أنه من مخصصات العموم [ التخصيص بالعادة ]
وفيه مسائل : الأولى : أطلق جمع من أئمتنا كالشيخ أبي إسحاق الشيرازي وابن السمعاني وغيرهما بأن العادة لا تخصص ونقله في القواطع " عن الأصحاب ، وحكوا الخلاف فيه عن الحنفية . وقال الصفي الهندي : هذا يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون النبي عليه السلام أوجب شيئا أو أخبر به بلفظ عام ، ثم رأينا العادة جارية بترك بعضها أو بفعل بعضها ، فهل تؤثر تلك العادة في تخصيص العام ، حتى يقال : المراد من ذلك العام ما عدا ذلك البعض الذي جرت العادة بتركه أو بفعله أم لا تؤثر في ذلك ، بل هو باق على عمومه متناول لذلك الفعل ولغيره ؟ انتهى .
وهذه الحالة هي التي تكلم فيها صاحب المحصول " وأتباعه ، واختار فيها التفصيل ، وهو أنه إن علم جريان العادة في زمن النبي عليه السلام ، مع عدم منعه عنها فيخص ، والمخصص في الحقيقة تقريره عليه السلام . وإن علم عدم جريانها لم يخص إلا أن يجمع على فعلها ، فيكون تخصيصا بالإجماع الفعلي ، وإن جهل فاحتمالات . [ ص: 520 ]
الثاني : أن تكون العادة جارية بفعل معين ، كأكل طعام معين مثلا ، ثم إنه عليه السلام نهاهم عن تناوله بلفظ متناول له ولغيره ، كما لو قال : نهيتكم عن أكل الطعام ، فهل يكون النهي مقتصرا على ذلك الطعام بخصوصه أم لا ، بل يجري على عمومه ، ولا تؤثر عاداتهم ؟ قال الصفي : والحق أنها لا تخصص ، لأن الحجة في لفظ الشارع ، وهو عام ، والعادة ليست بحجة ، حتى تكون معارضة له . انتهى .
وهذه الحالة هي التي تكلم فيها الآمدي ، وهما مسألتان لا تعلق لإحداهما بالأخرى ، فتفطن لذلك ، فإن بعض من لا خبرة له حاول الجمع بين كلام وابن الحاجب الإمام والآمدي ظنا منه أنهما تواردا على محل واحد ، وليس كذلك .
وممن ذكر أنهما حالتان القرافي في شرح التنقيح " وفرق بأن العادة السابقة على العموم يجعلها مخصصة ، والطارئة بعد العموم لا يقضى بها على العموم ، قال : ونظيره أن العقد إذا وقع في البيع فإن الثمن يحمل على العادة الحاضرة في النقد ، لا على ما يطرأ بعد ذلك من العوائد في النقود ، وإنما يعتبر من العوائد ما كان مقارنا لها ، وكذا نصوص الشارع لا يؤثر في تخصيصها إلا المقارن .
وممن اقتصر على إيراد هذه الحالة من كبار أصحابنا في تعليقه في الأصول ، الشيخ أبو حامد وسليم في التقريب " وأبو بكر الصيرفي وابن القشيري ، وقال : العادة لا تخص العام من الشارع ، فلو عم في الناس طعام وشراب وكانوا لا يعتادون تناول غيرهما ، فإذا ورد نهي مطلق عن الطعام لم يختص بالمعتاد دون غيره . وقال : العرف من المخصصات ، [ ص: 521 ] وحمل الطعام على البر ، لأنه في عرف أهل أبو حنيفة الحجاز كذلك .
وقال : لا يجوز التخصيص به . قال : وذلك مثل أن يرد عن النبي عليه السلام خبر في بيع أو غيره ، وعادة الناس تخالفه ، فيجب الأخذ بالخبر ، وإطراح تلك العادة . قال : وليس في هذا خلاف . قال : فإن قيل : أليس قد خصصتم عموم لفظ اليمين بالعادة ، فقلتم : إذا حلف لا يأكل بيضا ، أو لا يأكل الرءوس فلا يحنث إلا بما يعتاد أكله من الرءوس والبيض ؟ فهلا قلتم في ألفاظ الشارع مثل ذلك ؟ قيل : نحن لا نخص اليمين بعرف العادة ، وإنما نخصه بعرف الشرع ، مثل : لا يصلي أو لا يصوم ، فيحنث بالشرعي ، أو بعرف قائم بالاسم مثل : لا يأكل البيض أو الرءوس الذي يقصد بالأكل فيخص اليمين بعرف قائم في الاسم ، فأما بعرف العادة فلا يخص ، فإنه الشيخ أبو حامد ، حنث به ، وإن كان لا يعتاد أكله . لو حلف لا يأكل خبزا ببلد لا يؤكل فيه إلا خبز الأرز
وقال : الاعتبار بعموم اللسان ، ولا اعتبار بعموم ذلك الاسم على ما اعتادوه ، لأن الخطاب إنما يقع بلسان أبو بكر الصيرفي العرب على حقيقة لغتها ، فلو خصصناه بالعادة للزم تناوله بعض ما وضع له ؟ وحق الكلام العموم ، ولسنا ندري : هل أراد الله ذلك أم لا ؟ فالحكم للاسم ، حتى يأتي دليل يدل على التخصيص . قال : وهذا كله بالنسبة إلى خطاب الله وخطاب رسوله ، فأما خطاب الناس فيما بينهم في المعاملات وغيرها ، فينزل على موضوعاتهم كنقد البلد في الشراء والبيع ، وغيره ، إذا أرادوه ، وإلا عمل بالعام . ولا يحال اللفظ عن حقه إلا بدليل انتهى . وقال سليم : لا يجوز التخصيص بالعادة ، مثل أن يرد خبر عن النبي عليه السلام في بيع أو غيره ، وعادة الناس تخالفه ، فيجب الأخذ بالخبر ، [ ص: 522 ] وإطراح تلك العادة ، لأن الخبر إنما يرد لنقل الناس عن عادتهم ، فلا يترك بها . انتهى . وقال إمام الحرمين في باب الزكاة من النهاية " : يجب في خمس شاة ، أنه يتخير بين غنم غالب البلد وغيره . لأنه صلى الله عليه وسلم قال : { في خمس شاة } ، واسم الشاة يقع عليهما جميعا ، ولفظ الشارع لا يتخصص بالعرف عند المحققين من أهل الأصول . ثم هنا أمران :
أحدهما : أن العادة التي تخصص إنما هي السابقة لوقت اللفظ المستقر ، وقارنته حتى تجعل كالملفوظ بها ، فإن العادة الطارئة بعد العام لا أثر لها ، ولا ينزل اللفظ السابق عليها قطعا ; وأغرب بعض المتأخرين فحكى خلافا في أن العرف الطارئ ، هل يخصص الألفاظ المتقدمة ؟ الثاني : أطلق كثيرون التخصيص بالعادة ، وخصها المحققون بالقولية دون الفعلية .
قال أبو الحسين في المعتمد " العادة التي تخالف العموم ضربان :
أحدهما : عادة في الفعل والآخر عادة في استعمال العموم ، أما الأول فبأن يعتاد الناس شرب بعض الدماء ، فيحرم الله سبحانه وتعالى الدماء بكلام يعمها ، فلا يجوز تخصيص هذه العموم . بل يجب تحريم ما جرت به العادة وغيره .
وأما الثاني : فيجوز أن يكون العموم مستغرقا في اللغة ، ويتعارف الناس الاستعمال في بعض تلك الأشياء فقط . كاسم الدابة ، فإنه في اللغة [ ص: 523 ] لكل ما دب وقد تعورف استعماله في الخيل فقط ، فمتى أمرنا الله بالدابة لشيء حمل على العرف ، لأنه به أحق وليس ذلك بتخصيص على الحقيقة ، وإنما هو تخصيص بالنسبة إلى اللغة ، وفرق بين أن لا يعتاد الفعل أو لا يعتاد إطلاق الاسم على المسمى . وذكر الغزالي مثله .
قال المازري : إن كانت العادة فعلية لم تخص العموم ، كغسل الإناء من ولوغ الكلب ، هل يحمل على إناء فيه ماء ، لأنه لم تجر عادتهم إلا به ، أو يعم الماء والطعام وغيره ؟ وفيه خلاف في مذهب . وإن كانت قولية ، كأن يعتاد المخاطبون إطلاق بهيمة الأنعام على الضأن دون ما سواه ، فهذا موضع الخلاف . مالك لا يخصص بهذه العادة ، فالشافعي : يخصص بها . وأبو حنيفة
قال : وهذا فيها إذا كان التعارف بين غير أهل اللغة ، فأما تعارف أهل اللغة على تسمية ، فإنه يرجع إليه إذا وجب التمسك بلغتهم ، وإنما الخلاف في تعارف من سواهم على قصر مسمياتهم على بعض ما وضعت له ، هل يقدم العرفي أو اللغوي ؟
وقال : العادة إن كانت فعلية لم يخص بها ، مثل أن يقول : حرمت عليكم أكل اللحوم ، وعادتهم أكل لحوم الغنم ، فيجري العام على عمومه ، وإن كانت عادة في التخاطب خص بها العموم ، مثل أن يقول : لا تركبوا دابة ، فيخص بها الخيل دون غيرها من الإبل والحمير ، لأن ذلك هو المفهوم في عادة التخاطب . القاضي عبد الوهاب
وقال : اختلف أصحابنا في تخصيص العموم بالعادة الغالبة ، كقوله تعالى : { القرطبي أو جاء أحد منكم من الغائط } فإنه كناية عن الخارج من المخرجين ، وهو عام غير أن أكثر أصحابنا خصوه [ ص: 524 ] بالأحداث المعتادة ، فلو خرج ما لا يعتاد كالحصى والدود لم يكن ناقضا وإنما صار إلى ذلك لأن اللفظ إذا أطلق لم يتبادر الذهن إلى غير المعتاد نصا ، وكان غيره غير مراد .
قال : وعلى هذا الخلاف في الأصل ابتنى الخلاف في مسائل الأيمان ، فإذا حلف بلفظ له عرف فعلي ، ووضع لغوي ، فهل يحمل على الوضعي أو اللغوي ؟ قولان . وقال القرافي : شذ الآمدي بحكاية الخلاف في العادة الفعلية ، ووقع في كلام المازري حكاية خلاف في ذلك عن المالكية . لعله مما التبس عليه القولية بالفعلية . وأظن أني سمعت الشيخ عز الدين بن عبد السلام يحكي الإجماع على أنها لا تخصص ، أعني الفعلية . وقال العالمي من الحنفية : العادة الفعلية لا تكون مخصصة إلا أن تجمع الأمة على استحسانها ، ثم قال : ولقائل أن يقول : هذا تخصيص بالإجماع لا بالعادة . انتهى .
وقال إلكيا : الخلاف في تخصيص العموم بالعادة لا يعني بها الفعلية ، فإن الواجب على المخاطبين أن يتحولوا عن تلك العادة وإنما المعني بها استعمال العرف في بعض ما يتناوله ، وذلك على وجهين : أحدهما : أن يعلم موافقة الرسول عليه السلام لهم في محاوراتهم ، فيبتني عليها ، والثاني : أن لا يظهر ذلك ، ويحتمل ، فيتبع موضوع اللغة .
وقال الشيخ تقي الدين في شرح العنوان " : هذه المسألة تحتاج إلى تحرير ، لأنه قد أطلق القول بالخلاف فيها ، وترجيح القول بالعموم فيها . والصواب أن يفصل بين عادة ترجع إلى الفعل ، وعادة ترجع إلى القول ; فما يرجع إلى الفعل يمكن أن يرجح فيه العموم على العادة ، مثل أن يحرم بيع الطعام بالطعام ، ويكون العادة بيع البر منه ، فلا يخصص عموم اللفظ بهذه العادة الفعلية . [ ص: 525 ]
وأما ما يرجع إلى القول مثل أن يكون أهل العرف اعتادوا تخصيص اللفظ ببعض موارده اعتبارا بما سبق الذهن بسببه إلى ذلك الخاص ، فإذا أطلق اللفظ العام فيقوى تنزيله على الخاص المعتاد ، لأن الظاهر أنه إنما يدل باللفظ على ما شاع استعماله فيه ، لأنه المتبادر إلى الذهن . ا هـ .
وقال صاحب الواضح " المعتزلي : أطلق المصنفون في الأصول أن العموم يخص بالعادات ، والصحيح أن اللفظ العام يخص بالعرف في الأقوال ، ولا يخص به في الأفعال فإذا قال لغيره : اشتر دابة ، فاشترى كلبا ، كان مخالفا ، لأن اللفظ وإن كان عاما في كل ما دب إلا أن العرف قد قيده بالخيل ، ولو قال اشتر لحما ، فاشترى لحم كلب لم يكن مخالفا ، لأن الاسم عام في كل لحم ، والعرف في الفعل خاص في بعض اللحمان فلم يخص العام بالعرف في الفعل . وقال الإبياري : للمسألة أحوال :
أحدهما أن يكون العرف عرف أهل اللسان كالدابة والغائط ، فهذا لا يخص به العموم قطعا ، إن قلنا : إن الشرع لم يتصرف في اللغة . وإن قلنا : إنه يتصرف ينزل منزلة عرفه ، ووجب التخصيص به .
الثاني : أن يكون العرف لغير أهل اللغة ، ولم يكن الشرع يعرف غير عرفهم في الاختصاص ، فهذا يجب أن تنزل ألفاظ الشارع على مقتضاها ، إما في اللغة أو في عرف السامع ، وهذا لا يتجه فيه خلاف ، إذ كيف يتصور أن يكون قصد خطابهم على حسب عرفهم ، وهو لا يعرفه ؟
الثالث : أن يكون المخاطبون ليسوا أهل لغة ، والشارع يعرف عرفهم ، ولكن لم يظهر منه خطابهم على مقتضى عرفهم ، ولا يظهر الإضراب عن ذلك ، فهذا موضع الخلاف في أنه ينزل على مقتضى عرفهم أم لا ؟ [ ص: 526 ]
الرابع : أن المخاطبين اعتادوا بعض ما يدل عليه العموم ، كما لو نهي عن أكل اللحم مثلا ، وكانت عادتهم أكل لحم مخصوص ، فهل يكون النهي مقصورا على ما اعتادوا أكله أم لا ؟ هذا موضع الخلاف عند الأصوليين والفقهاء ، وعليه يخرج تخصيص الأيمان بالعرف الفعلي . تنبيهان
الأول : ادعى بعضهم أن مذهب تخصيص العموم بالعادة الفعلية خلافا لما سبق عن الأصوليين ، فإنه لما حمل الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم في الرقيق : { الشافعي } الحديث ، على الاستحباب ، دون الوجوب ، حمل الحديث على أن الخطاب وأطعموهم مما تأكلون ، وألبسوهم مما تلبسون للعرب الذين كانت مطاعمهم وملابسهم متفاوتة ، وكان عيشهم ضيقا ، فأما من لم يكن حاله كذلك ، وخالف معاشه معاش السلف والعرب في أكل رقيق الطعام ، ولبس جيد الثياب ، فلو واسى رقيقه كان أكرم وأحسن ، وإن لم يفعل ، فله ما قال النبي صلى الله عليه وسلم : { } ، وهو عندنا ما عرف لمثله في بلده الذي يكون فيه ، هذا لفظ نفقته وكسوته بالمعروف رحمه الله . قال : فأنت تراه كيف خصص عموم لفظ النبي صلى الله عليه وسلم بما كانت عادتهم فعله في تلك الأزمان . الشافعي قلت : إنما خصصه بقوله : { } ، وفسر المعروف بالعرف ، وجمع بين الحديثين بذلك ، وساعده [ ص: 527 ] في حمل الأول عادة المخاطبين ، وكلامنا في التخصيص بمجرد العادة لا بدليل خارجي ، فليس في نص نفقته وكسوته بالمعروف ما ذكر . الشافعي
الثاني : ، وكذلك لو لم تكن العادة موجودة في عهده أو كانت ، ولم يعلمها ، أو علم بها ولكن لم يخص بها بالإجماع ، لأن المثال السائر لا يكون دليلا من الشرع إلا مع الإجماع وحينئذ يكون الإجماع هو المخصص لا العادة ، ولا يعكر على هذا إفرادها بمسألة التخصيص بتقريره صلى الله عليه وسلم عنها . التحقيق أن المخصص هو تقرير الرسول صلى الله عليه وسلم ، والعادة كاشفة عنه