( كتاب الجنايات )
أورد الجنايات عقيب الرهن ; لأن كل واحد منهما للوقاية والصيانة ، فإن الرهن وثيقة لصيانة المال وحكم الجناية لصيانة النفس ، ألا ترى إلى قوله تعالى { ولكم في القصاص حياة } ولما كان المال وسيلة لبقاء النفس قدم الرهن على الجنايات بناء على تقدم الوسائل على المقاصد كذا في أكثر الشروح قال في غاية البيان ولكن قدم الرهن ; لأنه مشروع بالكتاب والسنة بخلاف الجناية ; لأنها محظورة ، فإنها عبارة عما ليس للإنسان فعله ا هـ .
أقول : هذا ليس بشيء ; لأن المقصود بالبيان في كتاب الجنايات إنما هو أحكام الجنايات دون أنفسها ولا شك أن أحكامها مشروعة ثابتة بالكتاب والسنة وأيضا فلا معنى لتأخيرها من هذه الحيثية ، ثم إن الجناية في اللغة اسم لما تجنيه من شيء أي تكسبه وهي في الأصل مصدر جنى عليه شرا جناية وهو عام في كل ما يقبح ويسوء إلا أنه في الشرع خص بفعل محرم حل بالنفوس والأطراف والأول يسمى قتلا وهو فعل من العباد تزول به الحياة . والثاني يسمى قطعا وجرحا هذا زبدة ما في الكتاب والشروح . الكلام في الجناية من أوجه : الأول في معرفة مشروعيتها ، والثاني في سبب وجوبها ، والثالث في تفسيرها لغة ، والرابع في تفسيرها عند الفقهاء ، والخامس في ركنها والسادس في شرطها ، والسابع في حكمها . أما الأول فهو معرفة مشروعيتها لقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص } الآية .
وقوله صلى الله عليه وسلم { } وسبب [ ص: 327 ] مشروعية القصاص رفع الفساد في الأرض وأما معناها لغة فهي في اللغة اسم لما يجنيه المرء من شر وما اكتسبه تسمية للمصدر من جنى عليه شرا وهو عام إلا أنه خص بما يحرم من الفعل وأصله من جنى الثمر وهو أخذه من الشجرة وأما في الشرع فهو اسم لفعل محرم شرعا سواء كان من مال أو نفس لكنه في عرف الفقهاء يراد به عند إطلاقه اسم الجناية الواقعة في النفس والأطراف من الآدمي والجناية الواقعة في المال تسمى غصبا والجناية الواقعة من المحرم أو في الحرم على الصيد جناية المحرم . وأما العمد قود والقتل عدوان فهو القتل وهو فعل مضاف إلى العباد تزول به الحياة بمجرد العادة . وأما ركنه فالمماثلة والمعادلة في الاستيفاء ; لأن المماثلة مشروطة في أجزية السيئات وضمان العدوانات لقوله تعالى { شرطه ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها } ولأن في إيجاب الناقض بخسا بحق المظلوم .
وفي إيجاب الزيادة جور على الظالم والنجس غير مشروع والحيف حرام فكان الإنصاف والانتصاف في إيجاب المماثلة إلا أنه سقط اعتبار المماثلة في محال الأفعال في الأنفس في نوع ضرورة وهو أن قتل الواحد بطريق الاجتماع غالب وجودا ويظهر من الأفراد نادرا وقوعها فقتل الجماعة بالواحد ، ولو اعتبرنا المماثلة في محل الأفعال لأدى إلى فتح باب العدوان وسد باب القصاص وأية فائدة في شرع القصاص فسقط اعتبار المماثلة في الأنفس للضرورة وبقيت المماثلة في الأطراف معتبرة ، فإن الإجماع على إتلاف الطرف ليس بغالب بل هو نادر .