الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ( ولا تصير دينا ) لما ذكر ( إلا بفرض قاض ) بالفاء ( أو إذنه ) ولو للممون إن تأهل ( في اقتراض ) وإن تأخر الاقتراض عن الإذن كما اقتضاه إطلاقهم ، وإن نازع فيه السبكي وبحث أنها لا تصير دينا إلا بعد الاقتراض وهو كذلك كما سيأتي ، وزعم أن ما في كلام المصنف يصير عليه استثناء لفظيا لدخوله في ملك المستقرض ، فالواجب قضاء دينه لا النفقة غير صحيح بل هو عليه استثناء حقيقي ; لأن المستقرض صار كأنه نائبه ، فالدين إنما هو في ذمته وإنما تصير دينا بأحد هذين إن كان ( لغيبة ) للمنفق ( أو منع ) صدر منه فحينئذ تصير دينا لتأكدها بذلك ، وما ذكره كالرافعي من صيرورتها دينا بذلك هو المذهب ، وقول جماعة من المتأخرين : إنه مردود نقلا ومعنى مردود كما أوضحه البلقيني وغيره ، لكن صورته أن يقدرها الحاكم ويأذن لشخص في الإنفاق على الطفل ، فإذا أنفقه صار دينا في ذمة الغالب أو الممتنع وهي غير مسألة الاقتراض ، وأما إذا قال الحاكم : قدرت لفلان على فلان كذا ولم يقبض شيئا لم تصر دينا بذلك وهو غير مراد لهما .

                                                                                                                            نعم قد يقال : لا يتأتى ذلك مع قولهما أو إذنه في اقتراض لغيبة أو منع .

                                                                                                                            ويجاب عنه بأن هذا إذن في الإقراض لا في الاقتراض فسقط قول من وهم هنا ، وعلم من كلام المصنف صيرورتها دينا بإقراض القاضي أو نائبه بالأولى لكن يشترط أن يثبت عنده احتياج الفرع وغنى الأصل ، وللقريب أخذ نفقته من مال قريبه عند امتناعه إن لم يجد جنسها ، وله الاستقراض إن لم يجد له مالا وعجز عن الحاكم ويرجع إن أشهد وقصد الرجوع ، وإلا فلا ، والأوجه جريان ذلك في كل منفق ، وللأب وإن علا أخذ النفقة من مال فرعه الصغير أو المجنون بحكم الولاية ، وليس للأم أخذها من ماله حيث وجبت لها إلا بالحاكم كفرع وجبت نفقته على أصله المجنون لعدم ولايتهما ( وعليها ) أي الأم من مال فرعه ( إرضاع ولدها اللبأ ) بالهمز والقصر [ ص: 222 ] وهو ما ينزل بعد الولادة ويرجع في مدته لأهل الخبرة كما بحثه الأذرعي وقيل تتقدر بثلاثة أيام وقيل بسبعة وذلك ; لأن النفس لا تعيش بدونه غالبا ومع ذلك لها طلب الأجرة عليه إن كان لمثله أجرة كما يجب إطعام المضطر بالبذل ( ثم بعده ) أي إرضاعه اللبأ ( إن لم يوجد إلا هي أو أجنبية وجب إرضاعه ) على من وجدت إبقاء له ولها طلب الأجرة ممن تلزمه مؤنته ( وإن وجدتا لم تجبر الأم ) خلية كانت أو في نكاح أبيه وإن لاق بها إرضاعه لقوله تعالى { وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى } ( فإن رغبت ) في إرضاعه ولو بأجرة مثل ( وهي منكوحة أبيه ) أي الطفل ( فله منعها في الأصح ) ليكمل تمتعه بها ( قلت : الأصح ليس له منعها وصححه الأكثرون ، والله أعلم ) ; لأن فيه إضرارا بالولد لمزيد شفقتها به وصلاح لبنها له فاغتفر لأجل ذلك نقص تمتعه بها إن فرض ; لأن فوات كماله لا يشوش أصل العشرة كما هو واضح ، على أن غالب الناس يؤثر فقده تقديما لمصلحة ولده فلم يعتبر النادر في ذلك ، وما اعترض به هذا التصحيح غير ملاق له فليحذر .

                                                                                                                            أما غير منكوحة بأن كانت خلية فإن تبرعت مكنت منه قطعا ، وإلا فكما في قوله ( فإن ) ( اتفقا ) على أن الأم ترضعه ( وطلبت أجرة مثل ) له وقلنا : إن للزوج استئجار زوجته لإرضاع ولده وهو الأصح لتضمنه رضاه بترك التمتع وفرض الكلام في الزوجة للإشارة إلى هذا الخلاف في استئجارها ، وإلا فحكم الخلية كذلك ، فاندفع قول ابن شهبة ومن تبعه : تخصيص الزوجة مع ذكر أصله لغيرها أيضا لا وجه له ( أجيبت ) وكانت أحق به لوفور شفقتها ، ثم إن لم ينقص إرضاعها تمتعه استحقت النفقة أيضا وإلا فلا كما لو سافرت لحاجتها بإذنه ، كذا قالاه ، واعترضهما الأذرعي بأن ذاك حيث لم يصحبها في سفرها ، وإلا فلها النفقة ، وهو هنا مصاحبها فلتستحقها ، ويفرق بأن من شأن الرضاع أن يشوش التمتع غالبا ، فإن وجد ذلك بحيث فات به كمال التمكين سقطت ، وإلا فلا فلم ينظروا هنا للمصاحبة ، ومن هذا الفرق يؤخذ ما أفتيت به من أن الزوجة لو خرجت في البلدة بإذنه لصناعة لها لم تسقط نفقتها ، بخلاف سفرها بإذنه لحاجتها لتمكنه عادة من استرجاعها دون المسافرة ، ولا يخالفه ما في كلامهما في العدد من أنها لو خرجت لإرضاع بإذنه في البلدة سقطت .

                                                                                                                            وخرج بطلبت ما لو أرضعته ساكتة ، فلا أجرة لها ; لأنها متبرعة ( أو ) طلبت ( فوقها ) أي أجرة المثل ( فلا ) تلزمه الإجابة لتضرره [ ص: 223 ] ( وكذا ) لا تلزمه الإجابة هنا إلا في الحضانة الثابتة للأم كما بحثه العراقي ( إن ) رضيت الأم بأجرة المثل أو بأقل كما هو واضح و ( تبرعت ) به ( أجنبية ) صالحة لا يحصل للولد ضرر بها ( أو رضيت بأقل ) مما طلبته الأم ( في الأظهر ) لإضراره ببذل ما طلبته حينئذ ، وقد قال تعالى { وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم } والثاني تجاب الأم لوفور شفقتها ، ومحل الخلاف إذا استمرى الولد لبن الأجنبية وإلا أجيبت الأم إلى إرضاعه بأجرة المثل قطعا كما قاله بعض المتأخرين لما في العدول عنها من الإضرار بالرضيع وفي ولد حر وزوجة حرة أما ولد رقيق وأم حرة فللزوج منعها كما لو كان الولد من غيره ، فلو كانت رقيقة والولد حرا أو رقيقا فيحتمل إجابة من وافقه السيد منهما ويحتمل خلافه والأول أقرب ، وعلى الأظهر لو ادعى الأب وجود متبرعة أو راضية بأقل من أجرة المثل وأنكرت الأم صدق في ذلك بيمينه ; لأنها تدعي عليه أجرة ، والأصل عدمها ولأنه يشق عليه إقامة البينة وتجب الأجرة في مال الطفل ، فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته

                                                                                                                            التالي السابق



                                                                                                                            الخدمات العلمية