[ ص: 187 ] كتاب النفقات وما يذكر معها
وأخرت إلى هنا لوجوبها في النكاح وبعده وجمعت لتعدد أسبابها الآتية النكاح والقرابة والملك ، وأورد عليها أسباب أخر ، ولا ترد لأن بعضها خاص وبعضها ضعيف من الإنفاق وهو الإخراج ، ولا يستعمل إلا في الخير كما مر .
والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع ، وبدأ بنفقة الزوجة لأنها أقوى لكونها في مقابلة التمكين من التمتع ولا تسقط بمضي الزمان فقال ( على موسر ) حر كله ( لزوجته ) ولو أمة كافرة ومريضة ( كل يوم ) بليلته المتأخرة عنه كما صرح به الرافعي في الفسخ بالإعسار ، والمراد بذلك من طلوع فجره ، ولا ينافيه ما يأتي عن الإسنوي فيما لو حصل التمكين عند الغروب لأن المراد منه كما هو ظاهر أنه يجب لها قسط ما بقي من غروب تلك الليلة إلى الفجر دون ما مضى من الفجر إلى الغروب ثم تستقر بعد ذلك من الفجر دائما ، وما يأتي عن البلقيني أنه لا يجب القسط مطلقا مردود وإن كان في كلام الزركشي ما قد يوافقه ( مدا طعام و ) على ( معسر ) ومنه كسوب وإن قدر زمن كسبه على مال واسع ومكاتب وإن أيسر لضعف ملكه ومبعض لنقصه ، وإنما جعلوه موسرا في الكفارة بالنسبة لوجوب الإطعام لأن مبناها على التغليظ : أي ولأن النظر للإعسار فيها يسقطها من أصلها ولا [ ص: 188 ] كذلك هنا ، وفي نفقة القريب احتياطا له لشدة لصوقه به وصلة لرحمه ، على أنه لو قيل اليسار والإعسار يتفاوت في أبواب الفقه لاختلاف مداركها لم يبعد ( مد ومتوسط مد ونصف ) ولو لرفيعة .
أما أصل التفاوت فلقوله تعالى { لينفق ذو سعة من سعته } وأما ذلك التقدير فبالقياس على الكفارة بجامع أن كلا مال .
وجب بالشرع ويستقر في الذمة ، وأكثر ما وجب فيها لكل مسكين مدان كفارة نحو الحلق في النسك ، وأقل ما وجب له مد في كفارة نحو اليمين والظهار وهو يكتفى به الزهيد وينتفع بالرغيب فلزم الموسر الأكثر والمعسر الأقل والمتوسط ما بينهما وإنما لم يعتبر شرف المرأة وضده لأنها لا تعير بذلك ولا الكفاية كنفقة القريب لأنها تجب للمريضة والشبعانة وما اقتضاه ظاهر خبر هند { } من تقديرها بالكفاية الذي ذهب إلى اختياره جمع من حيث الدليل وأطالوا القول فيه . خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف
يجاب عنه بأنه لم يقدرها فيه بالكفاية فقط بل بها بحسب المعروف ، وحينئذ فما ذكروه هو المعروف المستقر في العقول كما هو واضح ، ولو فتح للنساء باب الكفاية من غير تقدير لوقع التنازع لا إلى غاية فتعين ذلك التقدير اللائق بالعرف فاتضح كلامهم ، واندفع قول الأذرعي لا أعرف لإمامنا رضي الله عنه سلفا في التقدير بالأمداد ، ولولا الأدب لقلت الصواب أنها بالمعروف تأسيا واتباعا ، ومما يرد عليه أيضا أنها في مقابله وهي تقتضي التقدير فتعين .
وأما تعين الحب فلأنها أخذت شبها من الكفارة من حيث كون كل منهما في مقابل وإن تفاوتوا في القدر ، لأنا وجدنا ذوي النسك متفاوتين فيه ، فألحقنا ما هنا بذلك في أصل التقدير ، وإذا ثبت أصله تعين استنباط معنى يوجب التفاوت وهو ما تقرر ( والمد ) الأصل في اعتباره الكيل وإنما ذكروا الوزن استظهارا أو إذا وافق الكيل كما مر ثم الوزن اختلفوا فيه ( مائة وثلاثة وسبعون درهما وثلث درهم ) بناء على ما مر عن الرافعي في رطل بغداد ( قلت : الأصح مائة وأحد وسبعون ) درهما ( وثلاثة أسباع درهم ، والله أعلم ) بناء على الأصح السابق فيه ( ومسكين الزكاة ) المار ضابطه في باب قسم الصدقات هو ( معسر ) وفقيرها بالأولى ، ودعوى أن عبارته مقلوبة وصوابها والمعسر هو مسكين الزكاة مردودة .
ومما [ ص: 189 ] يبطل حصره ما مر أن ذا الكسب الواسع معسر هنا وليس مسكين زكاة فتعين ما عبر به لئلا يرد عليه ذلك ( ومن فوقه ) في التوسع بأن كان له ما يكفيه من المال لا الكسب ( إن كان لو كلف مدين ) كل يوم لزوجته ( رجع مسكينا فمتوسط وإلا ) بأن لم يرجع مسكينا لو كلف ذلك ( فموسر ) ويختلف ذلك بالرخص والغلاء ، زاد في المطلب : وقلة العيال وكثرتها ، حتى إن الشخص الواحد قد يلزمه لزوجته نفقة موسر ولا يلزمه لو تعددت إلا نفقة متوسط أو معسر ، ولو صدق بيمينه إن لم يعهد له مال وإلا فلا ، فإن ادعى تلفه ففيه تفصيل الوديعة ادعت يسار زوجها وأنكر من بر أو غيره كأقط كالفطرة وإن لم يلق بها ولا ألفته إذ لها إبداله . ( والواجب غالب قوت البلد ) أي محل الزوجة
( قلت ) كما قال الرافعي في الشرح ( فإن اختلف ) غالب قوت محلها أو أصل قوته بأن لم يكن فيه غالب ( وجب لائق به ) أي بيساره أو ضده ، ولا عبرة بما يتناوله توسعا أو بخلا مثلا ( ويعتبر اليسار وغيره ) من التوسط والإعسار ( طلوع الفجر ) إن كانت ممكنة حينئذ ( والله أعلم ) لاحتياجها لطحنه وعجنه وخبزه ، ويلزمه الأداء عقب طلوعه إن قدر بلا مشقة لكنه لا يخاصم ، فإن شق عليه فله التأخير على العادة ، أما الممكنة بعده فيعتبر حاله عقب التمكين ( وعليه ) أي الزوج ( تمليكها ) يعني أن يدفع إليها إن كانت كاملة وإلا فلوليها وسيد غير المكاتبة ولو مع سكوت الدافع والأخذ بل الوضع بين يديها كاف ( حبا ) سليما إن كان واجبه كالكفارة ولأنه أكمل في النفع فتتصرف فيه كيف شاءت ( وكذا ) عليه بنفسه أو نائبه وإن اعتادت فعل ذلك بنفسها ( طحنه ) وعجنه ( وخبزه في الأصح ) للحاجة إليها .
والثاني لا يلزمه ذلك كالكفارات ، وفرق الأول بأنها في حبسه حتى لو باعته أو أكلته حبا استحقت مؤن ذلك في أوجه احتمالين ، ويوجه بأنه بطلوع [ ص: 190 ] الفجر تلزمه تلك المؤن فلم تسقط بما فعلته ، وكذا عليه مؤنة اللحم وما يطبخ به أي وإن أكلته نيئا أخذا مما ذكر ( ولو طلب أحدهما بدل الحب ) مثلا من نحو دقيق أو قيمة بأن طلبته هي أو بذله هو فذكر الطلب فيه للتغليب أو لكون بذله متضمنا لطلبه منها قبول ما بذله ( لم يجبر الممتنع ) لأنه اعتياض وشرطه التراضي ( فإن اعتاضت ) عن واجبها في اليوم نقدا أو عرضا من الزوج لا غيره كما قاله ابن المقري وإن اعترضه الشارح بالجواز من غيره أيضا بناء على الأصح أنه يجوز بيع الدين لغير من عليه ( جاز في الأصح ) كالقرض بجامع استقرار كل في الذمة لمعين ، فخرج بالاستقرار المسلم فيه والنفقة المستقبلة كما جزما به ، ونقله غيرهما عن الأصحاب لأنها معرضة للسقوط ( إلا خبزا ودقيقا ) ونحوهما فلا يجوز أن يتعوضه عن الحب الموافق له جنسا ( على المذهب ) لأنه ربا ، ونقل الأذرعي مقابله عن كثيرين ، ثم حمل الأول على ما إذا وقع اعتياض بعقد .
والثاني على ما إذا كان مجرد استيفاء .
قال : وهو المختار وعليه العمل قديما وحديثا والمعتمد الإطلاق وإن زعم أنه يؤيده قولهم ( ولو أكلت ) مختارة عنده ( معه على العادة ) أو وحدها أو أضافها شخص إكراما له ( سقطت نفقتها ) إن أكلت قدر الكفاية وإلا رجعت بالتفاوت كما رجحه الزركشي وقطع به ابن العماد ، قال : وتصدق هي في قدر ما أكلته لأن الأصل عدم قبضها ما نفته ( في الأصح ) لإطباق الناس عليه في زمنه صلى الله عليه وسلم وبعده ولم ينقل خلافه ولم يبين أن لهن الرجوع ولم يقض ذلك من تركة من مات .
والثاني لا تسقط لأنه لم يؤد الواجب وتطوع بغيره [ ص: 191 ] ( قلت إلا أن تكون ) قنة أو ( غير رشيدة ) لصغر أو جنون أو سفه وقد حجر عليها بأن استمر سفهها المقارن للبلوغ أو طرأ وحجر عليها وإلا لم يحتج لإذن الولي ( ولم يأذن ) سيدها المطلق التصرف وإلا فوليه أو ( وليها ) في أكلها معه فلا تسقط قطعا لتبرعه فلا رجوع له عليها بشيء من ذلك إن كان غير محجور عليه ، وإن قصد به جعله عوضا عن نفقتها وإلا فلوليه ذلك كما أفتى به الوالد رحمه الله تعالى ومثل نفقتها فيما ذكر كسوتها ( والله أعلم ) واستشكال ذلك بإطباق السلف السابق إذ لا استفصال فيه مردود بأن غايته أنه كالوقائع الفعلية وهي تسقط بالاحتمالات ، فاندفع أخذ البلقيني من قضيته سقوطها بأكله معه مطلقا ، واكتفى بإذن الولي مع أن قبض غير المكلفة لغو لأن الزوج بإذنه يصير كالوكيل في إنفاقه عليها ، وظاهر أن محله حيث كان لها حظ فيه وإلا لم يعتد بإذنه فيرجع عليه بما هو مقدر لها .
ولو اختلف الزوجان فقالت قد قصدت التبرع فقال بل قصدت كونه عن النفقة صدق بيمينه كما لو دفع لها شيئا ثم ادعى كونه عن المهر وادعت هي الهدية نظير ما مر في القوت ، ومن ثم يأتي هنا ما مر في اختلاف الغالب ولم يعتبر ما يتناوله الزوج ( كزيت ) بدأ به لخبر ( ويجب ) لها ( أدم غالب البلد ) أي محل الزوجة أحمد والترمذي وغيرهما { } وفي رواية كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة { للحاكم } ( وسمن وجبن وتمر ) لأنه من المعاشرة بالمعروف المأمور بها لأن الطعام لا ينساغ غالبا إلا به ، وبحث فإنه طيب مبارك الأذرعي أنه إذا كان القوت نحو لحم أو لبن اكتفى به في حق من يعتاد اقتياته وحده ، ويجب لها أيضا ماء تشربه كما أفهمه قوله آلات أكل وشرب ، لأنه إذا وجب الظرف وجب المظروف ، وأما قدره فقال الزركشي والدميري : الظاهر أنه الكفاية ، قالا : ويكون إمتاعا لا تمليكا حتى لو مضت عليه مدة ولم تشربه لم تملكه ، وإذا شرب غالب أهل البلد ماء ملحا وخواصها عذبا وجب ما يليق بالزوج ا هـ لكن مقتضى كلام الشيخين وغيرهما أنه تمليك وهو المعتمد ( ويختلف ) الأدم ( بالفصول ) الأربعة فيجب في كل فصل ما يعتاد الناس فيه حتى الفواكه فتكفي عن الأدم كما اقتضاه كلامهما .
نعم يتجه كما بحثه الأذرعي الرجوع فيه للعرف وأنه يجب من [ ص: 192 ] الأدم ما يليق بالقوت ، بخلاف نحو خل لمن قوتها التمر وجبن لمن قوتها الأقط ( ويقدره ) كاللحم الآتي ( قاض باجتهاده ) عند تنازعهما إذ لا توقيت فيه ( ويفاوت ) فيه قدرا وجنسا ( بين موسر وغيره ) فيفرض ما يليق بحاله وبالمد أو المدين أو المد والنصف وتقدير بمكيلة سمن أو زيت حملوه على التقريب وهي أوقية ، وقدرها بعضهم بأربعين درهما لا بوزن الشافعي بغداد لأنها لا تغني عنها شيئا ، وإنما نص على الدهن لأنه أكمل الأدم وأخفه مؤنة ، ولو تبرمت بجنس من الأدم الواجب لها لم يبدل لرشيدة إذ لها إبداله بغيره وصرفه للقوت وعكسه ، وقيل له منعها من إبدال الأشرف بالأخس ويتعين اعتماده إن أفضى إلى نقص تمتع بها كما يؤخذ مما يأتي آخر الفصل ، ويعلم مما ذكر أن له منعها من ترك التأدم بالأولى ، أما غير رشيدة ليس لها من يقوم بإبداله فيبدله الزوج لها كما بحثه الأذرعي والأوجه كما بحثه أيضا وجوب سراج لها أول الليل في محل جرت العادة باستعماله فيه ولها إبداله بغيره ( و ) يجب لها ( لحم ) يقدره الحاكم عند تنازعهما باجتهاده معتبرا في قدره وجنسه وزمنه ( ما يليق بيساره وإعساره ) وتوسطه ( كعادة البلد ) أي محل الزوجة في أكله ونوعه وقدره وزمنه كما هو ظاهر من غير تقدير بشيء إذ لا توقيف فيه .
وما نقل عن النص من تقديره برطل : أي بغدادي على معسر في كل أسبوع : أي ويوم الجمعة أولى لأنه أحق بالتوسيع جرى على عادة أهل مصر قديما لعزة اللحم عندهم يومئذ ومن ثم تعتبر عادة أهل القرى من عدم [ ص: 193 ] تناولهم له إلا نادرا وعادة أهل المدن رخصا وغلاء ، وقربه البغوي بقوله على موسر كل يوم رطل ومتوسط كل يومين أو ثلاثة ومعسر كل أسبوع ، وقول طائفة لا يزاد على ما مر عن النص لأن فيه كفاية لمن قنع مردود ، وبحث الشيخان عدم وجوب أدم يوم اللحم ولهما احتمال بوجوبه على الموسر إذا أوجبنا عليه اللحم ليكون أحدهما غداء والآخر عشاء ، واعتمد الأذرعي وغيره الأول ، والأقرب حمله على ما إذا كان كافيا للغداء والعشاء والثاني على خلافه ( ولو كانت تأكل الخبز وحده وجب الأدم ) ولم ينظر لعادتها لما مر أنه من المعاشرة بالمعروف