ثم شرع في أحكام الحيض فقال ( ما يحرم بالجنابة ) من صلاة وغيرها لكونه أغلظ منها بدليل أنه يحرم به أمور زيادة على ما يحرم بها كما أشار إليه بقوله ( وعبور المسجد إن خافت [ ص: 328 ] تلويثه صيانة له عن تلويثه بالنجاسة ، فإن أمنت تلويثه جاز لها العبور مع الكراهة ) كما في المجموع ومحلها عند انتفاء حاجة عبورها ولا يختص ما ذكره بها ، فمن به حدث دائم كمستحاضة وسلس بول ومن به جراحة نضاخة بالدم أو كان منتعلا بنعل به نجاسة رطبة وخشي تلويث المسجد بشيء من ذلك [ ص: 329 ] فله حكمها ، وخرج بالمسجد غيره كمصلى العيد والمدرسة والرباط فلا يكره ولا يحرم عبوره على من ذكر ( والصوم ) للإجماع على تحريمه وعدم انعقاده ولخبر الصحيحين { ( ويحرم به ) أي بالحيض } أليس إذا حاضت المرأة لم تصل ولم تصم ؟ ؟ الأوجه الثاني ، لأن خروج الدم مضعف والصوم مضعف أيضا ، فلو أمرت بالصوم لاجتمع عليها مضعفان والشارع ناظر إلى حفظ الأبدان ، وهل عدم صحته منها تعبد لا يعقل معناه كما ادعاه الإمام أو معقول المعنى ؟ قال وهل تثاب على الترك كما يثاب المريض على النوافل التي كان يفعلها في صحته وشغله مرضه عنها المصنف : لا لأن المريض ينوي أنه يفعل لو كان سالما مع بقاء أهليته وهي غير أهل فلا يمكن أن تنوي أنها تفعل لأنه حرام عليها ( ويجب قضاؤه بخلاف الصلاة ) لخبر { عائشة } وترك الصلاة يستلزم عدم قضائها لأن الشارع أمر بالترك ومتروكه [ ص: 330 ] لا يجب فعله فلا يجب قضاؤه ولأنها تكثر فتشق بخلافه ، ولأن أمرها لم يبن على أن تؤخر ولو بعذر ثم تقضى ، بخلاف الصوم فإنه عهد تأخيره بعذر السفر والمرض ثم يقضى ، وقد انعقد الإجماع على ذلك . كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة
والأوجه كما أفاده الشيخ كراهة قضائها بل قال بعض المتأخرين : إنه المشهور المعروف ولا يؤثر فيه نهي عائشة الآتي ، والتعليل المذكور منتقض بقضاء المجنون والمغمى عليه ، خلافا لما نقله الإسنوي عن والمصنف عن ابن الصلاح أنه يحرم لأن البيضاوي عائشة نهت السائل عن ذلك ، ولأن القضاء محله فيما أمر بفعله ، بخلاف المجنون والمغمى عليه فيسن لهما القضاء ، وعلى الكراهة هل تنعقد صلاتها أو لا ؟
الأوجه نعم إذ لا يلزم من عدم طلب العبادة عدم انعقادها ولا يقدح في ذلك أن وجوب قضاء الصوم عليها بأمر جديد ، ولأنه يلزم على القول بعدم الانعقاد استواء القول بالحرمة والكراهة لأنه حيث قيل بعدمه كانت عبادة فاسدة وتعاطيها حرام ، فنصبهم الخلاف بينهما دال على تغاير حكمهما ومما يحرم عليها الطهارة عن الحدث بقصد التعبد مع علمها بالحرمة لتلاعبها ، فإن كان المقصود منها النظافة كأغسال الحج لم يمتنع كما سيأتي ثم ( و ) يحرم به أيضا مباشرتها في ( ما بين سرتها وركبتها ) ولو من غير [ ص: 331 ] شهوة لآية { فاعتزلوا النساء في المحيض } وهو الحيض عند الجمهور ، ولخبر أبي داود { } وخص بمفهومه عموم خبر أنه صلى الله عليه وسلم سأل عما يحل للرجل من امرأته وهي حائض فقال : ما فوق الإزار { مسلم } ولأن الاستمتاع بما تحت الإزار يدعو إلى الجماع فحرم ، لأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، على أنه يمكن أن يراد به المضاجعة والقبلة ونحوهما جمعا بينه وبين الأول ، وهو أولى من رد الحديث الأول إليه ، ويعضده فعله صلى الله عليه وسلم . اصنعوا كل شيء إلا النكاح
وعلم مما تقرر حرمة بطريق الأولى ، وجواز النظر ولو بشهوة لها إذ ليس هو أعظم من تقبيلها في وجهها بشهوة ، وإن كان تعبير وطئها في فرجها ولو بحائل الرافعي في الشرحين والمحرر وتبعه في الروضة بالاستمتاع يقتضي تحريمه .
قال الإسنوي : إن بين التعبير بالاستمتاع والمباشرة عموما وخصوصا من وجه : أي لكون المباشرة لا تكون إلا باللمس سواء أكان بشهوة أم لا ، والاستمتاع يكون باللمس والنظر ، ولا يكون إلا بشهوة .
ولو بوطء فجائز وإن لم يكن ثم حائل ، وكذا بما بينهما بحائل بغير وطء في الفرج ، ومحل ذلك فيمن لا يغلب على ظنه أنه إن باشرها وطئ لما عرفه من عادته من قوة شبقه وقلة تقواه ، وهو أولى بالتحريم ممن حركت القبلة شهوته وهو صائم ، وأما نفس السرة والركبة فهل هما كما فوق السرة وتحت الركبة . أما الاستمتاع بما عدا ما بين السرة والركبة
قال في المجموع والتنقيح : لم أر لأصحابنا كلاما في الاستمتاع بالسرة [ ص: 332 ] والركبة ، والمختار الجزم بجوازه ا هـ وعبارة الأم والسرة فوق الإزار .
قال الإسنوي : وسكتوا عن ، والقياس أن مسها للذكر ونحوه من الاستمتاعات المتعلقة بما بين السرة والركبة حكمه حكم تمتعاته بها في ذلك المحل . مباشرة المرأة للزوج
واعترض عليه بأنه غلط عجيب فإنه ليس في الرجل دم حتى يكون ما بين سرته وركبته كما بين سرتها وركبتها ، فمسها لذكره غايته أنه استمتاع بكفها وهو جائز قطعا ، وبأنها إذا لمست ذكره بيدها فقد استمتع هو بها بما فوق السرة والركبة وهو جائز ، وبأنه كان الصواب في نظم القياس أن يقول : كل ما منعناه منه نمنعها أن تلمسه به فيجوز له أن يلمس بجميع بدنه سائر بدنها إلا ما بين سرتها وركبتها ، ويحرم عليه تمكينها من لمسه بما بينهما ، وله منعها من استمتاعها به مطلقا ، ويحرم عليها حينئذ وقد يقال : إن كانت هي المستمتعة اتضح ما قاله الإسنوي لأنه كما حرم عليه استمتاعه بما بين سرتها وركبتها خوف الوطء المحرم يحرم استمتاعها بما بين سرته وركبته لذلك ، وخشية التلويث بالدم ليس علة ولا جزء علة لوجود الحرمة مع تيقن عدمه ، وإن كان هو المستمتع اتجه الحل لأنه مستمتع بما عدا ما بينهما .
هذا والأوجه عدم الحرمة في جانبها خلافا للإسنوي ، كبيرة يكفر مستحله . ووطؤها في فرجها عالما عامدا مختارا
ويستحب للواطئ مع العلم وهو عامد مختار في أول الدم تصدق ، ويجزئ ولو على نحو فقير واحد بمثقال إسلامي من الذهب الخالص أو ما يكون بقدره ، وفي آخر الدم بنصفه سواء أكان زوجا أم غيره ، وقد أبدى ابن الجوزي في الفرق بينهما معنى لطيفا فقال : إنما كان هذا لأنه كان في أوله قريب عهد بالجماع فلا يعذر ، وفي آخره قد بعد عهده فخفف ، ومحل ما تقرر في غير المتحيرة أما هي [ ص: 333 ] فلا كفارة بوطئها وإن حرم ، ولو أخبرته بالحيض فكذبها لم يحرم أو صدقها حرم ، وإن لم يكذبها ولم يصدقها فالأوجه كما قاله الشيخ حله للشك ، بخلاف من علق به طلاقها وأخبرته به فإنها تطلق وإن كذبها لأنه مقصر في تعليقه بما لا يعرف إلا منها ، ويقاس النفاس على الحيض فيما ذكر والوطء بعد انقطاع الدم إلى الطهر كالوطء في آخر الدم كما في المجموع ، ولا يكره طبخها ولا استعمال ما مسته من عجين أو غيره ( وقيل لا يحرم غير الوطء ) واختاره في التحقيق وغيره ، وسيأتي في باب الطلاق حرمته في حيض ممسوسة لتضررها بطول المدة ، فإن زمان الحيض لا يحسب من العدة ، فإن كانت حاملا لم يحرم طلاقها لأن عدتها إنما تنقضي بوضع الحمل ( فإذا انقطع ) دم الحيض في زمن إمكانه ومثله النفاس ( لم يحل قبل الغسل ) أي أو التيمم ( غير الصوم ) لأن الحيض قد زال وصارت كالجنب وصومه صحيح بالإجماع ( والطلاق ) هو من زيادته لزوال المعنى المقتضي لتحريمه من تطويل العدة بسبب الحيض ، ومما يحل لها أيضا صحة طهارتها وصلاتها عند فقد الطهورين بل يجب ، وما سوى ذلك من تمتع ومس مصحف وحمله ونحوها باق حتى تغتسل أو تتيمم ، أما غير التمتع فلبقاء حدثها ، وأما التمتع ، فلقوله تعالى { ولا تقربوهن حتى يطهرن } فإنه قد قرئ بالتخفيف والتشديد والقراءتان في السبع ، فأما قراءة التشديد فصريحة فيما قلناه .
وأما التخفيف ، فإن كان المراد به أيضا الاغتسال كما رواه وجماعة لقرينة قوله { ابن عباس فإذا تطهرن } فواضح ، وإن كان المراد به انقطاع الحيض فقد ذكر بعده شرطا آخر وهو قوله { فإذا تطهرن } فلا بد منهما معا .