وقد خص في الشرع بالحلف على الامتناع عن القرب من امرأته ومسيسها ، وكان ذلك التخصيص مشتقا من هذه الآية : للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر . والتربص الانتظار ، والترقب ، ومعنى الجملة الكريمة أن الله سبحانه وتعالى جعل للذين يحلفون ويجعلون موضع حلفهم الابتعاد عن نسائهم وتجنبهن متجنين عليهن ظالمين - تربص أربعة أشهر ينتظرونها ، والله يرقبهم فيها ، وحكم الله يترقبهم ، فإطلاق التربص من غير أن يضاف إلى الحالفين ، ولا أن يضاف إلى الله سبحانه وتعالى كان بمعنى الانتظار ، وهو من العبيد توسعة لهم ، ومن الله سبحانه وتعالى وشرعه ترقب لهم حتى يقطع السبيل على ظلمهم إن طال الأمد وقست قلوبهم .
وتلك المدة التي وسع لهم فيها ليعودوا إلى رشدهم . ويقلعوا عن غيهم ، وإلا حقت عليهم كلمة الله سبحانه وتعالى ; هي أربعة أشهر ، وبعدها يوضع حد لذلك الظلم والمضارة في العشرة الزوجية .
إن العشرة الزوجية أنس وإلف والتقاء روحي وجسدي بتحقيق ما يتقاضاه الطبع الإنساني ، والإنسال ; ليبقى الإنسان في هذه الأرض يعمرها إلى أن يقضي الله سبحانه وتعالى أمرا كان مفعولا ; فإذا جاء الرجل وهو القوام على الأسرة وهو رأسها وعمادها ، واشتط واتخذ المضارة والكيد ، بدل أن يؤلف القلوب ويؤنس النفوس ويربط بالمودة بينه وبين أهله ; إذا فعل ذلك فإن الجو يعتكر ، والأمور تضطرب ، وتحل البغضاء محل المحبة ، والمضرة محل المودة ; فوجب أن تنتهي هذه الحال إما بإعادة الود إلى صفائه ، وإما بفصم عرى الزوجية التي صارت لا تنتج إلا نكدا .
وإن من أشد مظاهر المضارة والمكايدة القطيعة في المضجع ، والهجر غير الجميل في المبيت ، فإنه أذى شديد ، لا لأنه امتناع عن قضاء الوطر ، بل لأنه يدل [ ص: 751 ] على البغض الشديد ، ولا شيء يفعل في نفس المرأة أشد من الإحساس بالبغض من العشير والضجيع الذي وهبت له نفسها ، وأعطته قلبها ، فكان منه ذلك النكر وذلك الهجر .
ولقد جعل الله سبحانه وتعالى أقصى غاية الصبر منها هو أربعة أشهر ، وبعدها يكون الفصم ، وإنهاء تلك الحياة الزوجية التي تحكمت بين الزوجين فيها البغضاء .
ولماذا كانت المدة أربعة أشهر ; لقد ذكر بعض العلماء أن تلك المدة غير الجميل . ولقد سأل أقصى ما تصبر عليه المرأة في المضارة بذلك الهجر نساء عن مقدار ما تصبر المرأة عن زوجها ، فقالت بعضهن شهرين ، ويقل صبرها في ثلاثة ، وينفد صبرها في أربعة أشهر . ولقد كان عمر رضي الله عنه بعد هذا يسترد الغزاة ويستبدل بهم غيرهم بعد أربعة أشهر . عمر
ثم إن التقدير بأربعة أشهر هو الذي يتفق مع جملة الأحكام الشرعية ; ذلك لأن الرجل أبيح له أن يتزوج أربعا من النساء ، وإذا كان في كل شهر يقرب نساءه مرة ، ويبادل بينهن ، فإن قسمها يكون مرة كل أربعة أشهر ، فكان من تناسق الأحكام الشرعية أن جعلت المدة التي تصبر فيها المرأة مع هذا الهجر أو تتصبر أربعة أشهر ; وذلك فوق أن الفطرة تقول : إن ذلك أقصى غاية الصبر على البعد المتعمد .
فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن تلك المهلة التي أعطيها الزوج يتربص فيها وينتظر ، والله يرقبه ، والشرع يترقبه ، إنما هي لكي يقلع عن الظلم وتعود المودة إلى ما كانت عليه ، ويؤدم بينهما بحياة رفيقة يقطعانها ، فإن فاء إلى زوجه أي رجع إلى مضجعه الذي هجره ، وقرب من امرأته ومسها ، وحنث في يمينه ، كفر إذ جعل الله سبحانه وتعالى الكفارة تحلة الأيمان ، وعندئذ يغفر الله سبحانه ما كان منه ; ولذا قال سبحانه : فإن الله غفور رحيم أي أن الله سبحانه وتعالى يغفر لهم ما فرط منهم في جنب أهلهم ، والقطيعة التي كانت منهم ما داموا قد رأبوا الصدع وعادوا إلى رشدهم وطيبوا قلوب أهليهم ، وأقاموا المودة ، وملئوا البيت أنسا بعد أن ملئوه [ ص: 752 ] وحشة ; ويغفر لهم سبحانه حنثهم في يمينهم ; لأن الله سبحانه لا يريد إلا إصلاح حالهم ، ولا ينقص من عظمته وجلاله أن يحنث عبد في قسمه ، ما دام الخير يريد والشر يجتنب ; والله سبحانه وتعالى رحيم بعباده في أن جعل لهم تحلة أيمانهم كفارة يستطيعونها وأن غفر لهم الحنث ، وأن دعاهم إلى ذلك الحنث رحمة بالأسرة من أن تتهدم أركانها ، وتتقطع أوصالها وتذهب المودة بين العشير وعشيره ، والأليف وأليفه ; ورحيم بهم في أن غفر لهم ما فرط من كل منهما في حق أخيه إذا أعادا المودة إلى سابق أمرها بعد أن كاد الهجر يقطعها .