القلب واللسان هما عبارة عن الإنسان; كما يقال: الإنسان بأصغريه . قلبه، ولسانه .
وخرج من رواية ابن سعد مرسلا عروة بن الزبير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رأى أشج عبد القيس، وكان رجلا دميما، فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنه لا يستقى في مسوك الرجال، إنما يحتاج من الرجل إلى أصغريه; لسانه، وقلبه . وقال : المتنبي
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ولم يبق إلا صورة اللحم والدم
فمن استقام قلبه ولسانه استقام شأنه كله، فالقلب السليم هو الذي ليس فيه محبة شيء مما يكرهه الله، فدخل في ذلك: سلامته من الشرك الجلي، والخفي، ومن الأهواء والبدع، ومن الفسوق والمعاصي; كبائرها وصغائرها الظاهرة والباطنة: كالرياء والعجب والغل والغش والحقد والحسد وغير ذلك وهذا القلب السليم هو الذي لا ينفع يوم القيامة سواه; قال تعالى: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم (89) . إذا سلم القلب لم يسكن فيه إلا الرب . في بعض الآثار، يقول الله: "وما وسعني سمائي ولا أرضي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن " .
* * *
[ ص: 53 ] وقوله - صلى الله عليه وسلم -: فيه إشارة إلى: أن "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت، صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب " . صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه للمحرمات واتقائه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه .
فإن كان قلبه سليما، ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه، صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقي الشبهات حذرا من الوقوع في المحرمات .
وإن كان القلب فاسدا، قد استولى عليه اتباع هواه، وطلب ما يحبه، ولو كرهه الله، فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب .
ولهذا يقال: القلب ملك الأعضاء، وبقية الأعضاء جنوده، وهم مع هذا جنود طائعون له، منبعثون في طاعته، وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيء من ذلك، فإن كان الملك صالحا كانت هذه الجنود صالحة، وإن كان فاسدا كانت جنوده بهذه المثابة فاسدة، ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم، كما قال تعالى: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم (89) .
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه: "أسألك قلبا سليما" .
فالقلب السليم: هو السالم من الآفات والمكروهات كلها، وهو القلب [ ص: 54 ] الذي ليس فيه سوى محبة الله وما يحبه الله وخشية الله، وخشية ما يباعد منه .
وفي "مسند " عن الإمام أحمد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: أنس "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه " .
والمراد باستقامة إيمانه: استقامة أعمال جوارحه، فإن أعمال الجوارح لا تستقيم إلا باستقامة القلب، ومعنى استقامة القلب: أن يكون ممتلئا من محبة الله، ومحبة طاعته، وكراهة معصيته .
قال لرجل: داو قلبك؛ فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم . الحسن
يعني: أن مراده منهم ومطلوبه صلاح قلوبهم، فلا صلاح للقلوب حتى تستقر فيها معرفة الله وعظمته ومحبته وخشيته ومهابته ورجاؤه والتوكل عليه، وتمتلئ من ذلك، وهذا هو فلا صلاح للقلوب حتى يكون إلهها الذي تألهه وتعرفه وتحبه وتخشاه هو الله وحده لا شريك له، ولو كان في السماوات والأرض إله يؤله سوى الله، لفسدت بذلك السماوات والأرض، كما قال تعالى: حقيقة التوحيد، وهو معنى "لا إله إلا الله "، لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا
فعلم بذلك أنه لا صلاح للعالم العلوي والسفلي معا حتى تكون حركات أهلها كلها لله، وحركات الجسد تابعة لحركة القلب وإرادته، فإن كانت حركته وإرادته لله وحده، فقد صلح وصلحت حركات الجسد كلها، وإن كانت حركة القلب وإرادته لغير الله تعالى، فسد، وفسدت حركات الجسد [ ص: 55 ] بحسب فساد حركة القلب .
وروى عن الليث في قوله تعالى: مجاهد ولا تشركوا به شيئا قال: لا تحبوا غيري .
وفي "صحيح " عن الحاكم - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: عائشة "الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء، وأدناه: أن تحب على شيء من الجور، وأن تبغض على شيء من العدل، وهل الدين إلا الحب والبغض؟ قال الله عز وجل: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " .
فهذا يدل على أن محبة ما يكرهه الله، وبغض ما يحبه الله متابعة للهوى، والموالاة على ذلك والمعاداة عليه من الشرك الخفي، ويدل على ذلك قوله تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله فجعل علامة الصدق في محبته اتباع رسوله، فدل على أن المحبة لا تتم بدون الطاعة والموافقة .
قال قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، إنا نحب ربنا حبا شديدا . فأحب الله أن يجعل لحبه علما، فأنزل الله هذه الآية: الحسن: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ومن هنا قال اعلم أنك لن تحب الله حتى تحب طاعته . الحسن:
وسئل متى أحب ربي؟ قال: إذا كان ما يبغضه عندك أمر من الصبر . وقال ذو النون: ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغضه [ ص: 56 ] حبيبك . وقال بشر بن السري: كل من ادعى محبة الله عز وجل، ولم يوافق الله في أمره، فدعواه باطل . وقال أبو يعقوب النهرجوري: رويم: المحبة: الموافقة في كل الأحوال، وقال : ليس بصادق من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده . وعن بعض السلف قال: قرأت في بعض الكتب السالفة من أحب الله لم يكن عنده شيء آثر من مرضاته، ومن أحب الدنيا لم يكن عنده شيء آثر من هوى نفسه . يحيى بن معاذ
وفي "السنن " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ومعنى هذا أن حركات القلب والجوارح إذا كانت كلها لله فقد كمل إيمان العبد بذلك ظاهرا وباطنا، ويلزم من صلاح حركات القلب صلاح حركات الجوارح، فإذا كان القلب صالحا ليس فيه إلا إرادة الله وإرادة ما يريده لم تنبعث الجوارح إلا فيما يريده الله، فسارعت إلى ما فيه رضاه وكفت عما يكرهه، وعما يخشى أن يكون مما يكرهه وإن لم يتيقن ذلك . "من أعطى لله، ومنع لله، وأحب لله، وأبغض لله، فقد استكمل الإيمان "
قال ما نظرت ببصري، ولا نطقت بلساني، ولا بطشت بيدي . ولا نهضت على قدمي، حتى أنظر على طاعة أو على معصية؟ فإن كانت طاعة تقدمت، وإن كانت معصية تأخرت . الحسن:
وقال محمد بن الفضل البلخي : ما خطوت منذ أربعين سنة خطوة لغير الله عز وجل . وقيل لداود الطائي: لو تنحيت من الظل إلى الشمس؟ فقال: هذه خطا لا أدري كيف تكتب .
[ ص: 57 ] فهؤلاء القوم لما صلحت قلوبهم، فلم يبق فيها إرادة لغير الله، صلحت جوارحهم، فلم تتحرك إلا لله عز وجل، وبما فيه رضاه، والله أعلم .