قوله تعالى: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما (68) يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا (69) إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات
وخرج من حديث النسائي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أبي سعيد "إذا أسلم العبد [ ص: 44 ] فحسن إسلامه، كتب الله له كل حسنة كان أزلفها، ومحيت عنه كل سيئة كان أزلفها، ثم كان بعد ذلك القصاص، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله " . وفي رواية أخرى: "وقيل له: ائتنف العمل " .
والمراد بالحسنات والسيئات التي كان أزلفها: ما سبق منه قبل الإسلام، وهذا يدل على أنه يثاب بحسناته في الكفر إذا أسلم وتمحى عنه سيئاته إذا أسلم، لكن بشرط أن يحسن إسلامه، ويتقي تلك السيئات في حال إسلامه . وقد نص على ذلك . الإمام أحمد
ويدل على ذلك ما في "الصحيحين " قال: قلنا: يا رسول الله، ابن مسعود أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: "أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها، ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام" . عن
وفي "صحيح " مسلم قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما أسلم: أريد أن أشترط، قال: "تشترط ماذا؟ " قلت: أن يغفر لي . قال: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ " . عمرو بن العاص وخرجه عن ولفظه: الإمام أحمد وهذا محمول على الإسلام الكامل الحسن، جمعا بينه وبين حديث "أن الإسلام يجب ما كان قبله من الذنوب " الذي قبله . ابن مسعود
وفي "صحيح " أيضا مسلم قال: قلت: يا رسول الله أرأيت أمورا كنت أصنعها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة [ ص: 45 ] رحم، أفيها أجر؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أسلمت على ما أسلفت من خير" حكيم بن حزام وفي رواية له: عن قال: فقلت: والله; لا أدع شيئا صنعته في الجاهلية إلا صنعت في الإسلام مثله .
وهذا يدل على أن كما دل عليه حديث حسنات الكافر إذا أسلم يثاب عليها المتقدم . أبي سعيد
وقد قيل: إن سيئاته في الشرك تبدل حسنات، ويثاب عليها، أخذا من قوله تعالى: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات
وقد اختلف المفسرون في هذا التبديل على قولين:
فمنهم من قال: هو في الدنيا، بمعنى: أن الله يبدل من أسلم وتاب إليه بدل ما كان عليه من الكفر والمعاصي: الإيمان والأعمال الصالحة . وحكى هذا القول في "غريب الحديث " عن أكثر المفسرين، وسمى منهم إبراهيم الحربي ، ابن عباس ، وعطاء ، وقتادة ، والسدي . وعكرمة
قلت: وهو المشهور عن الحسن .
قال: وقال الحسن وأبو مالك وغيرهما: هي في أهل الشرك خاصة، ليس هي في أهل الإسلام .
قلت: إنما يصح هذا القول على أن يكون التبديل في الآخرة كما سيأتي، وأما إن قيل: إنه في الدنيا، فالكافر إذا أسلم والمسلم إذا تاب في ذلك سواء، بل المسلم إذا تاب فهو أحسن حالا من الكافر إذا أسلم .
[ ص: 46 ] قال: وقال آخرون: التبديل في الآخرة: جعلت لهم مكان كل سيئة حسنة منهم: ، عمرو بن ميمون ، ومكحول وابن المسيب ، وعلي بن الحسين ، قال: وأنكره ، أبو العالية ، ومجاهد وخالد سبلان، وفيه موضع إنكار، ثم ذكر ما حاصله: أنه يلزم من ذلك: أن يكون من كثرت سيئاته أحسن حالا ممن قلت سيئاته، حيث يعطى مكان كل سيئة حسنة . ثم قال: ولو قال قائل: إنما ذكر الله أن يبدل السيئات حسنات ولم يذكر العدد كيف تبدل فيجوز أن معنى تبدل: أن من عمل سيئة واحدة وتاب منها تبدل مائة ألف حسنة، ومن عمل ألف سيئة أن تبدل ألف حسنة، فيكون حينئذ من قلت سيئاته أحسن حالا .
قلت: هذا القول - وهو التبديل في الآخرة - قد أنكره ، وتلا قوله تعالى: أبو العالية يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ورده بعضهم بقوله تعالى: ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وقوله تعالى: ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا (49) .
ولكن قد أجيب عن هذا: بأن التائب يوقف على سيئاته; ثم تبدل حسنات، قال : إن المؤمن يؤتى كتابه في ستر من الله عز وجل، فيقرأ سيئاته، فإذا قرأ تغير لها لونه حتى يمر بحسناته، فيقرؤها فيرجع إليه لونه، ثم ينظر فإذا سيئاته قد بدلت حسنات، فعند ذلك يقول: أبو عثمان النهدي هاؤم اقرءوا كتابيه
ورواه بعضهم عن أبي عثمان عن ، وقال بعضهم: عن ابن مسعود أبي عثمان عن . سلمان
[ ص: 47 ] وفي "صحيح " من حديث مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أبي ذر
قال: فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحك حتى بدت نواجذه . "إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة، وآخر أهل النار خروجا منها، رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها، فيعرض الله عليه صغار ذنوبه . فيقال له: عملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا; وعملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا; فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة، فيقول: يا رب قد عملت أشياء لا أراها ها هنا" .
فإذا بدلت السيئات بالحسنات في حق من عوقب على ذنوبه بالنار، ففي حق من محي سيئاته بالإسلام والتوبة النصوح أولى، لأن محوها بذلك أحب إلى الله من محوها بالعقاب .
وخرج من طريق الحاكم الفضل بن موسى، عن أبي العنبس عن أبيه، عن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبي هريرة "ليتمنين أقوام أنهم أكثروا من السيئات " . قالوا: بم يا رسول الله؟
قال: "الذين بدل الله سيئاتهم حسنات " .
وخرجه من طريق ابن أبي حاتم سليمان أبي داود الزهري عن أبي العنبس عن أبيه عن - موقوفا، وهو أشبه من المرفوع . أبي هريرة
ويروى مثل هذا عن أيضا، وهو يخالف قوله المشهور: إن التبديل في الدنيا . الحسن البصري
وأما ما ذكره الحربي في التبديل، وأن من قلت سيئاته يزاد في حسناته، [ ص: 48 ] ومن كثرت سيئاته يقلل من حسناته، فحديث صريح في رد هذا، وأنه يعطى مكان كل سيئة حسنة . أبي ذر
وأما قوله: يلزم من ذلك أن يكون من كثرت سيئاته أحسن حالا ممن قلت سيئاته، فيقال: إنما التبديل في حق من ندم على سيئاته، وجعلها نصب عينيه، فكلما ذكره ازداد خوفا ووجلا وحياء من الله، ومسارعة إلى الأعمال الصالحة المكفرة كما قال تعالى: إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا وما ذكرناه كله داخل في العمل الصالح، ومن كانت هذه حاله، فإنه يتجرع من مرارة الندم والأسف على ذنوبه أضعاف ما ذاق من حلاوتها عند فعلها، ويصير كل ذنب من ذنوبه سببا لأعمال صالحة ماحية له، فلا يستنكر بعد هذا تبديل هذه الذنوب حسنات . وقد وردت أحاديث صحيحة صريحة في: أن فخرج الكافر إذا أسلم وحسن إسلامه تبدلت سيئاته في الشرك حسنات، من حديث الطبراني عبد الرحمن بن جبير بن نفير أبي فروة شطب: أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها، ولم يترك حاجة ولا داجة، فهل له من توبة؟ فقال: " أسلمت؟ " قال: نعم، قال: "فافعل الخيرات، واترك السيئات . فيجعلها الله لك خيرات كلها" . قال: وغدراتي وفجراتي; قال: "نعم " . قال: فما زال يكبر حتى توارى . وخرجه من وجه آخر بإسناد ضعيف عن عن سلمة بن نفيل، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وخرج نحوه من حديث ابن أبي حاتم مرسلا، وخرج مكحول [ ص: 49 ] الحديث الأول . وعنده: عن البزار أبي طويل شطب الممدود: أنه أتى النبي، فذكره بمعناه .
وكذا خرجه في "معجمه "، وذكر: أن الصواب عن أبو القاسم البغوي عبد الرحمن بن جبير بن نفير مرسلا أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، طويل شطب، والشطب في اللغة: الممدود، فصحفه بعض الرواة، وظنه اسم رجل .