[ ص: 54 ] وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه :
فصل
ثم إن المنحرفين المشابهين للصابئة : إما مجردة ; وإما منحرفة إلى يهودية أو نصرانية من سلكوا في أصل العلم الإلهي طريقين : كل منهم سلك طريقا . وقد يسلك بعضهم هذا في وقت وهذا في وقت وربما جمع بعضهم بين الطريقين . أهل المنطق والقياس الطالبين للعلم والكلام ومن أهل العمل والوجد الطالبين للمعرفة . والحال : أهل الحروف . وأهل الأصوات
وأكثرهم لا يعلمون أن الله إليه طريق إلا أحد هذين كما يذكره جماعات : مثل ابن الخطيب ومن نحا نحوه بل مثل أبي حامد لما حصر الطرق في الكلام والفلسفة ; الذي هو النظر ; والقياس ; أو في التصوف والعبادة ; الذي هو العمل والوجد ولم يذكر غير هؤلاء الأصناف الثلاثة . بل أبو حامد لما ذكر في المنقذ من الضلال والمفصح بالأحوال أحواله في طرق العلم وأحوال العالم وذكر أن أول ما عرض له ما يعترض طريقهم - وهو السفسطة بشبهها المعروفة - وذكر أنه أعضل به هذا الداء قريبا من شهرين ; هو فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال لا بحكم المنطق والمقال حتى شفى [ ص: 55 ] الله عنه ذلك المرض وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقا بها على أمن وتبين ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام ; بل بنور قذفه الله في الصدر وذلك النور هو مفتاح أكبر المعارف قال : فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المجردة فقد ضيق رحمة الله الواسعة . ثم قال : انحصرت طرق الطالبين عندي في أربع فرق : -
المتكلمون : وهم يدعون أنهم أهل الرأي والنظر .
والباطنية : وهم يدعون أنهم أصحاب التعلم والمخصصون بالاقتباس من الإمام المعصوم .
والفلاسفة : وهم يدعون أنهم أصحاب المنطق . والبرهان .
والصوفية : ويدعون أنهم خواص الحضرة وأهل المكاشفة والمشاهدة .
فقلت في نفسي : الحق لا يعدو هذه الأصناف الأربعة فهؤلاء هم السالكون سبل طريق الحق ; فإن سد الحق عنهم فلا يبقى في درك الحق مطمع . ثم ذكر أن مقصود الكلام وفائدته : الذب عن السنة بالجدل لا تحقيق الحقائق وأن ما عليه الباطنية باطل وأن الفلسفة بعضها حق وبعضها كفر والحق منها لا يفي بالمقصود .
ثم ذكر أنه أقبل بهمته على طريق الصوفية وعلم أنها لا تحصل إلا بعلم [ ص: 56 ] وعمل فابتدأ بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل قوت القلوب لأبي طالب المكي وكتب الحارث المحاسبي والمتفرقات المأثورة عن الجنيد والشبلي وأبي يزيد ; حتى طلع على كنه مقاصدهم العلمية .
ثم إنه علم يقينا أنهم أصحاب أحوال لا أصحاب أقوال وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم . قد حصله ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالتعلم والسماع ; بل بالذوق والسلوك .
قال : وكان قد حصل معي من العلوم التي مارستها والمسالك التي سلكتها في التفتيش عن صنفي العلوم الشرعية والعقلية إيمان يقيني بالله وبالنبوة وباليوم الآخر .
وهذه الأصول الثلاثة - من الإيمان - كانت قد رسخت في نفسي بالله لا بدليل معين مجرد بل بأسباب وقرائن وتجارب لا تدخل تحت الحصر تفاصيلها وكان قد ظهر عندي أنه لا مطمع في سعادة الآخرة إلا بالتقوى وذكر أنه تخلى عشر سنين . إلى أن قال : انكشف لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها والقدر الذي أذكره لينتفع به . أني علمت يقينا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصة وأن سيرتهم أحسن السير ; وطريقتهم أصوب الطرق ; وأخلاقهم أزكى الأخلاق ; بل لو جمع عقل العقلاء وحكمة الحكماء وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ; ليغيروا شيئا من سيرهم وأخلاقهم ; ويبدلوه بما هو خير منه : لم يجدوا إليه سبيلا .
[ ص: 57 ] فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم : مقتبسة من مشكاة نور النبوة وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به .
وبالجملة فماذا يقول القائلون في طريق طهارتها ؟ وهي أول شروطها تطهير القلب بالكلية عما سوى الله ومفتاحها استغراق القلب بذكر الله .
قلت : يستفاد من كلامه أن أساس الطريق : هي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله كما قررته غير مرة . وهذا أول الإسلام ; الذي جعله هو النهاية وبينت الفرق بين طريق الأنبياء وطريق الفلاسفة . والمتكلمين لكن هو لم يعرف طريقة أهل السنة والحديث من العارفين ; فلهذا لم يذكرها وهي الطريقة المحمدية المحضة الشاهدة على جميع الطرق .
والسهروردي الحلبي المقتول سلك النظر والتأله جميعا ; لكن هذا صابئي محض فيلسوف لا يأخذ من النبوة إلا ما وافق فلسفته بخلاف ذينك وأمثالهما .
ثم منهم من لا يعرف إلا طريقة النظر والقياس ابتداء كجمهور المتكلمين من الجهمية والمعتزلة والأشعرية وبعض الحنبلية .
ومنهم من لا يعرف ابتداء : إلا طريقة الرياضة والتجرد والتصوف ككثير من الصوفية والفقراء الذين وقعوا في الاتحاد والتأله المطلق . مثل : عبد الله الفارسي والعفيف التلمساني ونحوهما . ومنهم من قد يجمع كالصدر القونوي ونحوه .
[ ص: 58 ] والغالب عليهم عالم التوهم فتارة يتوهمون ما له حقيقة وتارة يتوهمون ما لا حقيقة له كتوهم إلهية البشر وتوهم النصارى وتوهم المنتظر وتوهم الغوث المقيم بمكة : أنه بواسطته يدبر أمر السماء والأرض ; ولهذا يقول التلمساني ثبت عندنا بطريق الكشف ما يناقض صريح العقل .
ولهذا [ أصيب ] صاحب الخلوة بثلاث توهمات :
أحدها : أن يعتقد في نفسه أنه أكمل الناس استعدادا .
والثاني : [ أن ] يتوهم [ في ] شيخه أنه أكمل من على وجه الأرض .
والثالث : [ أنه ] يتوهم أنه يصل إلى مطلوبه بدون سبب وأكثر [ اعتماده ] على القوة الوهمية ; فقد تعمل الأوهام أعمالا لكنها باطلة كالمشيخة الذين لم يسلكوا الطرق الشرعية النبوية ; نظرا أو عملا ; بل سلكوا الصابئية .
ويشبه هؤلاء من بعض الوجوه : أكثر الأحمدية واليونسية والحريرية وكثير من العدوية وأصحاب الأوحد الكرماني وخلق كثير من المتصوفة والمتفقرة بأرض المشرق ; ولهذا تغلب عليهم الإباحة فلا يؤمنون بواجبات الشريعة ومحرماتها . وهم إذا تألهوا في تأله مطلق : لا يعرفون من هو إلههم بالمعرفة القلبية ; وإن حققه عارفوهم الزنادقة جعلوه الوجود المطلق .
ومنهم . من يتأله الصالحين من البشر وقبورهم ونحو ذلك
فتارة يضاهئون المشركين وتارة يضاهئون النصارى وتارة يضاهئون [ ص: 59 ] الصابئين وتارة يضاهئون المعطلة الفرعونية ونحوهم من الدهرية وهم من الصابئين ; لكن كفار في الأصل .
والخالص منهم : يعبد الله وحده ; لكن أكثر ما يعبده : بغير الشريعة القرآنية المحمدية فهم منحرفون ; إما عن شهادة أن لا إله إلا الله ; وإما عن شهادة أن محمدا رسول الله وقد كتبته في غير هذا .