[ ص: 363 ] قال شيخ الإسلام قدس الله روحه فصل تكلم طائفة من الصوفية في " " وعظموا أمره خاتم الأولياء كالحكيم الترمذي - وهو من غلطاته ; فإن الغالب على كلامه الصحة بخلاف ابن عربي فإنه كثير التخليط لا سيما في الاتحاد - وابن عربي وغيرهم وادعى جماعة كل واحد أنه هو كابن عربي وربما قيده بأنه ختم الولاية المحمدية أو الكاملة أو نحو ذلك ; لئلا يلزمه أن لا يخلق بعده لله ولي وربما غلوا فيه كما فعل ابن عربي في فصوصه فجعلوه ممدا في الباطن لخاتم الأنبياء تبعا لغلوهم الباطل حيث قد يجعلون الولاية فوق النبوة موافقة لغلاة المتفلسفة الذين قد يجعلون الفيلسوف الكامل فوق النبي .
وكذلك جهال القدرية والأحمدية واليونسية قد يفضلون شيخهم [ ص: 364 ] على النبي أو غيره من الأنبياء وربما ادعوا في شيخهم نوعا من الإلهية .
وكذلك طائفة من السعدية : يفضلون الولي على النبي .
وقال بعضهم يقلد الشافعي ولا يقلد أبو بكر وعمر وكذلك غالية الرافضة الذين قد يجعلون الإمام كان ممدا للنبي في الباطن كما قد يجعلونه إلها .
فأما حتى يفضل على النبي سواء سمي وليا أو إماما أو فيلسوفا وانتظارهم للمنتظر الذي هو : الغلو في ولي غير النبي . محمد بن الحسن
أو إسماعيل بن جعفر نظير ارتباط الصوفية على الغوث وعلى خاتم الأولياء فبطلانه ظاهر بما علم من نصوص الكتاب والسنة وما عليه إجماع الأمة فإن : النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فغاية من بعد النبي أن يكون صديقا كما كان خير هذه الأمة بعد نبيها صديقا ; ولهذا كانت غاية الله جعل الذين أنعم عليهم أربعة مريم ذلك في قوله : { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة } .
وبهذا استدللت على ما ذكره طائفة : وغيره من أصحابنا كالقاضي أبي يعلى وأبي المعالي وأظن الباقلاني من الإجماع على أنها لم تكن نبية ليقرروا كرامات الأولياء بما جرى على يديها فإن بعض الناس زعم أنها كانت نبية فاستدللت بهذه الآية ففرح مخاطبي بهذه الحجة ; فإن الله ذكر ذلك في بيان غاية فضلها " دفعا لغلو النصارى فيها ; كما [ ص: 365 ] يقال لمن ادعى في رجل أنه ملك من الملوك ; أو غني من الأغنياء ونحو ذلك فيقال : ما هو إلا رئيس قرية أو صاحب بستان فيذكر غاية ما له من الرئاسة والمال فلو كان للمسيح مرتبة فوق الرسالة أولها مرتبة فوق الصديقية لذكرت .
ولهذا كان أصل الغلو في النصارى ويشابههم في بعضه غالية المتصوفة والشيعة ومن انضم إليهم من الصابئة المتفلسفة فالرد عليهم من جهة واحدة .
{ أبي بكر وعمر : هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين } فهذه المسألة لشرحها موضع غير هذا وهي أن وقال النبي صلى الله عليه وسلم في . كل من سوى الأنبياء دونهم
وإنما الكلام هنا فيما يذكرونه من خاتم الأولياء فنقول : هذه تسمية باطلة لا أصل لها في كتاب ولا سنة ولا كلام مأثور عمن هو مقبول عند الأمة قبولا عاما ; لكن يعلم من حيث الجملة أن آخر من بقي من المؤمنين المتقين في العالم فهو آخر أولياء الله .
ونقول ثانيا : إن سواء كان المحقق أو فرض مقدر . آخر الأولياء أو خاتمهم
ليس يجب أن يكون أفضل من غيره من الأولياء فضلا عن أن يكون أفضلهم وإنما نشأ هذا من مجرد القياس على خاتم الأنبياء .
لما رأوا خاتم الأنبياء هو سيدهم .
توهموا من ذلك قياسا بمجرد الاشتراك في لفظ خاتم .
فقالوا : خاتم [ ص: 366 ] الأولياء أفضلهم .
وهذا خطأ في الاستدلال ; فإن فضل خاتم الأنبياء عليهم لم يكن لمجرد كونه خاتما .
بل لأدلة أخرى دلت على ذلك ثم نقول : بل وسابقهم هو أفضلهم فإن أفضل الأمة خاتم الأنبياء . أول الأولياء في هذه الأمة
وأفضل الأولياء سابقهم إلى خاتم الأنبياء ; وذلك لأن الولي مستفيد من النبي وتابع له .
فكلما قرب [ من النبي كان أفضل ] وكلما بعد عنه كان بالعكس .
بخلاف خاتم الأنبياء فإن استفادته إنما هي من الله .
فليس في تأخره زمانا ما يوجب تأخر مرتبته .
بل قد يجمع الله له ما فرقه في غيره من الأنبياء فهذا الأمر الذي ذكرناه من أن السابقين من الأولياء هم خيرهم .
هو الذي دل عليه الكتاب والسنن المتواترة وإجماع السلف ويتصل بهذا ظن طوائف أن من المتأخرين من قد يكون أفضل من أفاضل الصحابة ويوجد هذا في المنتسبين إلى العلم وإلى العبادة وإلى الجهاد والإمارة .
والملك .
حتى في المتفقهة من قال : أبو حنيفة أفقه من علي .
وقال بعضهم يقلد الشافعي ولا يقلد أبو بكر وعمر ويتمسكون تارة بشبه عقلية أو ذوقية من جهة أن متأخري كل فن يحكمونه أكثر من المتقدمين .
فإنهم يستفيدون علو الأولين مع العلوم التي اختصوا بها كما هو موجود في أهل الحساب والطبائعيين والمنجمين وغيرهم .
[ ص: 367 ] ومن جهة الذوق وهو ما وجدوه لأواخر الصالحين من المشاهدات العرفانية والكرامات الخارقة ما لم ينقل مثله عن السلف وتارة يستدلون بشبه نقلية مثل قوله : { } وقوله ; { للعامل منهم أجر خمسين منكم } ؟ وهذا خلاف السنن المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أمتي كالغيث لا يدرى أوله خير أم آخره ابن مسعود وعمران بن حصين و مما هو في الصحيحين أو أحدهما من قوله : { } وقوله : { خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم أحد ذهبا : ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه } وغير ذلك من الأحاديث . والذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل
وخلاف إجماع السلف : كقول ابن مسعود : " إن الله نظر في قلوب العباد : فوجد قلب محمد خير قلوب العباد ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد " وقول حذيفة " يا معشر القراء استقيموا .
وخذوا سبيل من كان قبلكم فوالله لئن اتبعتموهم لقد سبقتم سبقا بعيدا " ولئن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا وقول ابن مسعود : " من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا [ ص: 368 ] وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدي المستقيم " وقول جندب وغيره مما هو كثير مكتوب في غير هذا الموضع بل خلاف نصوص القرآن في مثل قوله : { والسابقون الأولون } الآية .
وقوله : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل } الآية .
وقوله : { والذين جاءوا من بعدهم } الآية وغير ذلك ; فإنه لم يكن الغرض بهذا الموضع هذه المسألة وإنما الغرض : الكلام على خاتم الأولياء ومما يشبه هذا ظن طائفة كابن هود وابن سبعين والنفري والتلمساني : ; لاعتقادهم أن العالم متنقل من الابتداء إلى الانتهاء كالصبي الذي يكبر بعد صغره والنبات الذي ينمو بعد ضعفه ويبنون على ذلك أن المسيح أفضل من أن الشيء المتأخر ينبغي أن يكون أفضل من المتقدم موسى ويبعدون ذلك إلى أن يجعلوا بعد محمد واحدا من البشر أكمل منه كما تقوله الإسماعيلية والقرامطة والباطنية فليس على هذا دليل أصلا .
أن كل من تأخر زمانه من نوع يكون أفضل ذلك النوع فلا هو مطرد ولا منعكس .
بل إبراهيم الخليل قد ثبت بقول النبي صلى الله عليه وسلم { } أي بعد النبي . أنه خير البرية
وكذلك قال الربيع بن خيثم : " لا أفضل على نبينا أحدا [ ص: 369 ] ولا أفضل على إبراهيم بعد نبينا أحدا وبعده جميع الأنبياء المتبعين لملته مثل موسى وعيسى وغيرهما " وكذلك أنبياء بني إسرائيل كلهم بعد موسى وقد أجمع أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى : على أن موسى أفضل من غيره من أنبياء بني إسرائيل إلا ما يتنازعون فيه من المسيح .
والقرآن قد شهد في آيتين لأولي العزم فقال في قوله : { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم } وقال : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى } فهؤلاء الخمسة أولوا العزم وهم الذين قد ثبت في أحاديث الشفاعة الصحاح : أنهم يترادون الشفاعة في أهل الموقف بعد آدم فيجب تفضيلهم على بنيهم وفيه تفضيل لمتقدم على متأخر ولمتأخر على متقدم .
وأصل الغلط في هذا الباب : أن تفضيل الأنبياء أو الأولياء أو العلماء أو الأمراء بالتقدم في الزمان أو التأخر أصل باطل فتارة يكون الفضل في متقدم النوع وتارة في متأخر النوع ; ولهذا يوجد في أهل النحو والطب والحساب ما يفضل فيه المتقدم كبطليموس وسيبويه وبقراط وتارة بالعكس .
[ ص: 370 ] وأما توهمهم أن متأخري كل فن أحذق من متقدميه ; لأنهم كملوه فهذا منتقض أولا : ليس بمطرد فإن كتاب سيبويه في العربية لم يصنف بعده مثله بل وكتاب بطليموس بل نصوص بقراط لم يصنف بعدها أكمل منها .
ثم نقول هذا قد يسلم في الفنون التي تنال : بالقياس والرأي والحيلة .
أما الفضائل المتعلقة باتباع الأنبياء فكل من كان إلى الأنبياء أقرب مع كمال فطرته : كان تلقيه عنهم أعظم وما يحسن فيه هو من الفضائل الدينية المأخوذة عن الأنبياء ; ولهذا كان من يخالف ذلك هو من المبتدعة الخارج عن سنن الأنبياء المعتقد أن له نصيبا من العلوم والأحوال خارجا عن طور الأنبياء فكل من كان بالنبوة وقدرها أعظم : كان رسوخه في هذه المسألة أشد .
وأما الأذواق والكرامات فمنها ما هو باطل والحق منه كان للسلف أكمل وأفضل بلا شك وخرق العادة : تارة يكون لحاجة العبد إلى ذلك وقد يكون أفضل منه لا تخرق له تلك العادة فإن خرقها له سبب وله غاية فالكامل قد يرتقي عن ذلك السبب وقد لا يحتاج إلى تلك الغاية المقصودة بها ومع هذا فما للمتأخرين كرامة إلا وللسلف من نوعها ما هو أكمل منها .
[ ص: 371 ] وأما قوله : { } فهذا صحيح لهم أجر خمسين منكم لأنكم تجدون على الخير أعوانا ولا يجدون على الخير أعوانا ; لكن لا يتصور أن بعض المتأخرين يعمل مثل عمل بعض أكابر السابقين ; إذا عمل الواحد من المتأخرين مثل عمل عمله بعض المتقدمين كان له أجر خمسين كأبي بكر وعمر فإنه ما بقي يبعث نبي مثل محمد يعمل معه مثلما عملوا مع محمد صلى الله عليه وسلم .
وأما قوله : { } مع أن فيه لينا فمعناه : في المتأخرين من يشبه المتقدمين ويقاربهم حتى يبقى لقوة المشابهة والمقارنة لا يدري الذي ينظر إليه أهذا خير أم هذا ؟ وإن كان أحدهما في نفس الأمر خيرا . أمتي كالغيث لا يدرى أوله خير أم آخره
فهذا فيه بشرى للمتأخرين بأن فيهم من يقارب السابقين كما جاء في الحديث الآخر : {
وبين ذلك ثبج أو عوج .
وددت أني رأيت إخواني قالوا : أولسنا إخوانك ؟ قال : أنتم أصحابي } هو تفضيل خير أمتي أولها وآخرها . للصحابة فإن لهم خصوصية الصحبة التي هي أكمل من مجرد الإخوة .
وكذلك قوله : { أي الناس أعجب إيمانا } إلى قوله : { } هو يدل على أن إيمانهم عجب أعجب من إيمان غيرهم ولا يدل على أنهم أفضل . قوم يأتون بعدي يؤمنون بالورق المعلق
فإن في الحديث أنهم [ ص: 372 ] ذكروا الملائكة والأنبياء ومعلوم أن الأنبياء أفضل من هؤلاء الذين يؤمنون بالورق المعلق .
ونظيره كون الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء فإنه لا يدل على أنهم بعد الدخول يكونون أرفع مرتبة من جميع الأغنياء وإنما سبقوا لسلامتهم من الحساب .
وهذا باب التفضيل بين الأنواع في الأعيان والأعمال والصفات أو بين أشخاص النوع باب عظيم يغلط فيه خلق كثير والله يهدينا سواء الصراط .