[ ص: 311 ] وقال الشيخ الإمام العالم العلامة العارف الرباني المقذوف في قلبه النور القرآني شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه وأرضاه .
الحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضاه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا إله سواه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي اصطفاه واجتباه وهداه صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
قاعدة شريفة في المعجزات والكرامات وإن كان المتقدمين اسم " المعجزة " يعم كل خارق للعادة في اللغة وعرف الأئمة وغيره - ويسمونها : الآيات - لكن كثيرا من المتأخرين يفرق في اللفظ بينهما فيجعل " المعجزة " [ ص: 312 ] للنبي و " الكرامة " للولي وجماعهما الأمر الخارق للعادة . كالإمام أحمد بن حنبل
فنقول : . صفات الكمال ترجع إلى " ثلاثة " : العلم والقدرة والغنى
وإن شئت أن تقول : العلم والقدرة .
والقدرة إما على الفعل وهو التأثير وإما على الترك وهو الغنى والأول أجود .
وهذه الثلاثة لا تصلح على وجه الكمال إلا لله وحده ; فإنه الذي أحاط بكل شيء علما وهو على كل شيء قدير وهو غني عن العالمين .
وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبرأ من دعوى هذه الثلاثة بقوله : { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي } وكذلك قال نوح عليه السلام .
فهذا أول أولي العزم وأول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض .
وهذا خاتم الرسل وخاتم أولي العزم كلاهما يتبرأ من ذلك .
وهذا لأنهم يطالبون الرسول صلى الله عليه وسلم تارة بعلم الغيب كقوله : { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } و { يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي } وتارة بالتأثير كقوله : { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا } { أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا } { أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا } [ ص: 313 ] - إلى قوله - { قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا } وتارة يعيبون عليه الحاجة البشرية كقوله : { وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا } { أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها } .
فأمره أن يخبر أنه لا يعلم الغيب ولا يملك خزائن الله ولا هو ملك غني عن الأكل والمال إن هو إلا متبع لما أوحي إليه واتباع ما أوحي إليه هو الدين وهو طاعة الله وعبادته علما وعملا بالباطن والظاهر وإنما ينال من تلك الثلاثة بقدر ما يعطيه الله تعالى فيعلم منه ما علمه إياه ويقدر منه على ما أقدره الله عليه ويستغني عما أغناه الله عنه من الأمور المخالفة للعادة المطردة أو لعادة غالب الناس .
فما كان من الخوارق من " باب العلم " فتارة بأن يسمع العبد ما لا يسمعه غيره .
وتارة بأن يرى ما لا يراه غيره يقظة ومناما .
وتارة بأن يعلم ما لا يعلم غيره وحيا وإلهاما أو إنزال علم ضروري أو فراسة صادقة ويسمى كشفا ومشاهدات ومكاشفات ومخاطبات : ويسمى ذلك كله " كشفا " و " مكاشفة " أي كشف له عنه . فالسماع مخاطبات والرؤية مشاهدات والعلم مكاشفة
[ ص: 314 ] وما كان من " باب القدرة " فهو التأثير وقد يكون همة وصدقا ودعوة مجابة وقد يكون من فعل الله الذي لا تأثير له فيه بحال مثل هلاك عدوه بغير أثر منه كقوله { } . من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وإني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب
ومثل تذليل النفوس له ومحبتها إياه ونحو ذلك .
وكذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في المبشرات : { ما كان من " باب العلم والكشف " . قد يكشف لغيره من حاله بعض أمور } وكما قال : النبي صلى الله عليه وسلم { هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له } . أنتم شهداء الله في الأرض
وكل واحد " من الكشف والتأثير " قد يكون قائما به وقد لا يكون قائما به بل يكشف الله حاله ويصنع له من حيث لا يحتسب كما قال : " ما صدق الله عبد إلا صنع له " وقال : يوسف بن أسباط " لو وضع الصدق على جرح لبرأ " لكن من قام بغيره له من الكشف والتأثير فهو سببه أيضا وإن كان خرق عادة في ذلك الغير فمعجزات الأنبياء وأعلامهم ودلائل نبوتهم تدخل في ذلك . أحمد بن حنبل
[ ص: 315 ] محمد صلى الله عليه وسلم جميع أنواع " المعجزات والخوارق " : أما العلم والأخبار الغيبية والسماع والرؤية فمثل أخبار نبينا صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء المتقدمين وأممهم ومخاطباته لهم وأحواله معهم وغير الأنبياء من الأولياء وغيرهم بما يوافق ما عند وقد جمع لنبينا أهل الكتاب الذين ورثوه بالتواتر أو بغيره من غير تعلم له منهم وكذلك إخباره عن أمور الربوبية والملائكة والجنة والنار بما يوافق الأنبياء قبله من غير تعلم منهم ويعلم أن ذلك موافق لنقول الأنبياء تارة بما في أيديهم من الكتب الظاهرة ونحو ذلك من النقل المتواتر وتارة بما يعلمه الخاصة من علمائهم وفي مثل هذا قد يستشهد أهل الكتاب وهو من حكمة إبقائهم بالجزية وتفصيل ذلك ليس هذا موضعه .
فإخباره عن الأمور الغائبة ماضيها وحاضرها هو من " باب العلم الخارق " وكذلك إخباره عن الأمور المستقبلة مثل مملكة أمته وزوال مملكة فارس والروم وقتال الترك وألوف مؤلفة من الأخبار التي أخبر بها مذكور بعضها في " كتب دلائل النبوة " و " سيرة الرسول " و " فضائله " و " كتب التفسير " و " الحديث " و " المغازي " مثل دلائل النبوة لأبي نعيم والبيهقي وسيرة وكتب الأحاديث المسندة كمسند ابن إسحاق والمدونة كصحيح الإمام أحمد البخاري وغير ذلك مما [ ص: 316 ] هو مذكور أيضا في " كتب أهل الكلام والجدل " : كأعلام النبوة للقاضي عبد الجبار وللماوردي والرد على النصارى للقرطبي ومصنفات كثيرة جدا .
وكذلك ما أخبر عنه غيره مما وجد في كتب الأنبياء المتقدمين وهي في وقتنا هذا اثنان وعشرون نبوة بأيدي اليهود والنصارى كالتوراة والإنجيل والزبور وكتاب شعيا وحبقوق ودانيال وأرميا وكذلك إخبار غير الأنبياء من الأحبار والرهبان وكذلك إخبار الجن والهواتف المطلقة وإخبار الكهنة كسطيح وشق وغيرهما وكذلك المنامات وتعبيرها : كمنام كسرى وتعبير الموبذان وكذا إخبار الأنبياء المتقدمين بما مضى وما عبر هو من أعلامهم .
وأما " القدرة والتأثير " فإما أن يكون في العالم العلوي أو ما دونه وما دونه إما بسيط أو مركب والبسيط إما الجو وإما الأرض ; والمركب إما حيوان وإما نبات وإما معدن .
والحيوان إما ناطق وإما بهيم ; فالعلوي كانشقاق القمر ورد الشمس ليوشع بن نون وكذلك ردها لما فاتت عليا الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم نائم في حجره - إن صح الحديث - فمن الناس من صححه كالطحاوي . والقاضي عياض
ومنهم من جعله موقوفا كأبي الفرج بن الجوزي وهذا أصح .
وكذلك معراجه إلى السماوات .
[ ص: 317 ] وأما " الجو " فاستسقاؤه واستصحاؤه غير مرة : كحديث الأعرابي الذي في الصحيحين وغيرهما وكذلك كثرة الرمي بالنجوم عند ظهوره وكذلك إسراؤه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى .
وأما " الأرض والماء " فكاهتزاز الجبل تحته وتكثير الماء في عين تبوك وعين الحديبية ونبع الماء من بين أصابعه غير مرة ومزادة المرأة .
وأما " المركبات " فتكثيره للطعام غير مرة في قصة الخندق من حديث جابر وحديث أبي طلحة وفي أسفاره وجراب ونخل أبي هريرة جابر بن عبد الله وحديث جابر وابن الزبير في انقلاع النخل له وعوده إلى مكانه وسقياه لغير واحد من الأرض كعين أبي قتادة .
وهذا باب واسع لم يكن الغرض هنا ذكر أنواع معجزاته بخصوصه وإنما الغرض التمثيل .
وكذلك من باب " القدرة " عصا موسى صلى الله عليه وسلم وفلق البحر والقمل والضفادع والدم وناقة صالح وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى كما أن من باب العلم إخبارهم بما يأكلون [ ص: 318 ] وما يدخرون في بيوتهم .
وفي الجملة لم يكن المقصود هنا ذكر المعجزات النبوية بخصوصها وإنما الغرض التمثيل بها .
وأما فمثل قول المعجزات التي لغير الأنبياء من " باب الكشف والعلم " عمر في قصة سارية وإخبار أبي بكر بأن ببطن زوجته أنثى وإخبار عمر بمن يخرج من ولده فيكون عادلا وقصة صاحب موسى في علمه بحال الغلام .
و " القدرة " مثل قصة الذي عنده علم من الكتاب وقصة أهل الكهف وقصة مريم وقصة خالد بن الوليد وسفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي مسلم الخولاني وأشياء يطول شرحها فإن تعداد هذا مثل المطر .
وإنما الغرض التمثيل بالشيء الذي سمعه أكثر الناس .
وأما القدرة التي لم تتعلق بفعله فمثل نصر الله لمن ينصره وإهلاكه لمن يشتمه .