فصل وقد ذكر الله في كتابه " و " التحريم " و " البعث " و " الإرسال " و " الكلام " و " الجعل " : بين الكوني الذي خلقه وقدره وقضاه ; وإن كان لم يأمر به ولا يحبه ولا يثيب أصحابه ولا يجعلهم من أوليائه المتقين وبين الديني الذي أمر به وشرعه وأثاب عليه وأكرمهم وجعلهم من أوليائه المتقين [ ص: 266 ] وحزبه المفلحين وجنده الغالبين ; وهذا من الفرق بين " الإرادة " و " الأمر " و " القضاء " و " الإذن فمن استعمله الرب سبحانه وتعالى فيما يحبه ويرضاه ومات على ذلك كان من أوليائه ومن كان عمله فيما يبغضه الرب ويكرهه ومات على ذلك كان من أعدائه . أعظم الفروق التي يفرق بها بين أولياء الله وأعدائه
ف " الإرادة الكونية " هي مشيئته لما خلقه وجميع المخلوقات داخلة في مشيئته وإرادته الكونية والإرادة الدينية هي المتضمنة لمحبته ورضاه المتناولة لما أمر به وجعله شرعا ودينا .
وهذه مختصة بالإيمان والعمل الصالح قال الله تعالى : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء } وقال نوح عليه السلام لقومه : { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم } وقال تعالى : { وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال } وقال تعالى في الثانية : { ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }
وقال في آية الطهارة : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون }
ولما ذكر ما أحله وما حرمه من النكاح قال : { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم } { والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما } [ ص: 267 ] { يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا }
وقال لما ذكر ما أمر به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وما نهاهم عنه : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا }
والمعنى أنه أمركم بما يذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا فمن أطاع أمره كان مطهرا قد أذهب عنه الرجس بخلاف من عصاه . وأما " الأمر " فقال في الأمر الكوني : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } وقال تعالى : { وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر }
وقال تعالى : { أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس }
وأما : الأمر الديني : فقال تعالى : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون } وقال تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا } وأما " الإذن " فقال في الكوني لما ذكر السحر : { وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله } أي بمشيئته وقدرته ; وإلا فالسحر لم يبحه الله عز وجل .
وقال في " الإذن الديني " : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } وقال تعالى : { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا } { وداعيا إلى الله بإذنه } وقال تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } وقال تعالى : { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله } .
وأما " القضاء " فقال في الكوني : { فقضاهن سبع سماوات في يومين } وقال سبحانه : { إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } وقال في الديني : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } أي أمر وليس المراد به قدر ذلك فإنه قد عبد غيره كما أخبر في غير موضع كقوله تعالى : { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } وقول الخليل عليه السلام لقومه : { أفرأيتم ما كنتم تعبدون } { أنتم وآباؤكم الأقدمون } { فإنهم عدو لي إلا رب العالمين }
وقال تعالى : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء }
وقال تعالى : { قل يا أيها الكافرون } { لا أعبد ما تعبدون } { ولا أنتم عابدون ما أعبد } { ولا أنا عابد ما عبدتم } { ولا أنتم عابدون ما أعبد } { لكم دينكم ولي دين } وهذه كلمة تقتضي براءته من دينهم ولا تقتضي رضاه بذلك ; كما قال تعالى في الآية الأخرى : { وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون } .
[ ص: 269 ] ومن ظن من الملاحدة أن هذا رضا منه بدين الكفار فهو من أكذب الناس وأكفرهم كمن ظن أن قوله { وقضى ربك } بمعنى قدر وأن الله سبحانه ما قضى بشيء إلا وقع وجعل عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله ; فإن هذا من أعظم الناس كفرا بالكتب .
وأما لفظ " البعث " فقال تعالى في البعث الكوني : { فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا }
وقال في البعث الديني : { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة } قال تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } .
وأما لفظ " الإرسال " فقال في الإرسال الكوني : { ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا } وقال تعالى : { وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته } وقال في الديني { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا } وقال تعالى : { إنا أرسلنا نوحا إلى قومه } وقال تعالى : { إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا } وقال تعالى : { الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس } .
وأما لفظ " الجعل " فقال في الكوني : { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار } وقال في الديني : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } وقال تعالى : { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } .
وأما لفظ " التحريم " فقال في الكوني : { وحرمنا عليه المراضع من قبل } وقال تعالى : { فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض } وقال في الديني { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به } وقال تعالى : { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت } الآية .
وأما لفظ " الكلمات " فقال في الكلمات الكونية { وصدقت بكلمات ربها وكتبه } وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : " { } " وقال صلى الله عليه وسلم " { أعوذ بكلمات الله التامة كلها من شر ما خلق ومن غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون } " وكان يقول : " { من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك } " . أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن
[ ص: 271 ] و " { } " هي التي كون بها الكائنات فلا يخرج بر ولا فاجر عن تكوينه ومشيئته وقدرته . كلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر
وأما " كلماته الدينية " وهي كتبه المنزلة وما فيها من أمره ونهيه فأطاعها الأبرار وعصاها الفجار .
وأولياء الله المتقون هم المطيعون لكلماته الدينية وجعله الديني وإذنه الديني وإرادته الدينية .
وأما ; فإنه يدخل تحتها جميع الخلق حتى إبليس وجنوده وجميع الكفار وسائر من يدخل النار فالخلق وإن اجتمعوا في شمول الخلق والمشيئة والقدرة والقدر لهم فقد افترقوا في الأمر والنهي والمحبة والرضا والغضب . كلماته الكونية التي لا يجاوزها بر ولا فاجر
وصبروا على المقدور فأحبهم وأحبوه ورضي عنهم ورضوا عنه . وأولياء الله المتقون هم الذين فعلوا المأمور وتركوا المحظور
وأعداؤه أولياء الشياطين وإن كانوا تحت قدرته فهو يبغضهم ويغضب عليهم ويلعنهم ويعاديهم .
وبسط هذه الجمل له موضع آخر وإنما كتبت هنا تنبيها على مجامع " الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " وجمع الفرق بينهما [ ص: 272 ] اعتبارهم بموافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه هو الذي فرق الله تعالى به بين أوليائه السعداء وأعدائه الأشقياء وبين أوليائه أهل الجنة وأعدائه أهل النار وبين أوليائه أهل الهدى والرشاد وبين أعدائه أهل الغي والضلال والفساد وأعدائه حزب الشيطان وأوليائه الذين كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه .
قال تعالى : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } الآية وقال تعالى : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان } .
وقال في أعدائه { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم } وقال : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا } وقال : { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين } { تنزل على كل أفاك أثيم } { يلقون السمع وأكثرهم كاذبون } { والشعراء يتبعهم الغاوون } { ألم تر أنهم في كل واد يهيمون } { وأنهم يقولون ما لا يفعلون } { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون }
وقال تعالى : { فلا أقسم بما تبصرون } { وما لا تبصرون } { إنه لقول رسول كريم } { وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون } { ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون } { تنزيل من رب العالمين } { ولو تقول علينا بعض الأقاويل } { لأخذنا منه باليمين } { ثم لقطعنا منه الوتين } { فما منكم من أحد عنه حاجزين } { وإنه لتذكرة للمتقين } { وإنا لنعلم أن منكم مكذبين } { وإنه لحسرة على الكافرين } { وإنه لحق اليقين } { فسبح باسم ربك العظيم }
وقال تعالى : { فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون } إلى قوله : { إن كانوا صادقين } .
فنزه سبحانه وتعالى نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم عمن تقترن به الشياطين من الكهان والشعراء والمجانين ; وبين أن الذي جاءه بالقرآن ملك كريم اصطفاه .
قال الله تعالى : { الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس } وقال تعالى : { وإنه لتنزيل رب العالمين } { نزل به الروح الأمين } { على قلبك لتكون من المنذرين } { بلسان عربي مبين } وقال تعالى : { قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله } الآية .
وقال تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } إلى قوله { وبشرى للمسلمين } فسماه الروح الأمين وسماه روح القدس .
وقال تعالى : { فلا أقسم بالخنس } { الجواري الكنس } يعني : الكواكب التي تكون في السماء خانسة أي : مختفية قبل طلوعها فإذا ظهرت رآها الناس جارية في السماء فإذا غربت ذهبت إلى كناسها الذي يحجبها { والليل إذا عسعس } أي إذا أدبر وأقبل الصبح { والصبح إذا تنفس } أي أقبل { إنه لقول رسول كريم } وهو جبريل عليه السلام { ذي قوة عند ذي العرش مكين } { مطاع ثم أمين } أي مطاع في السماء أمين ثم قال : { وما صاحبكم بمجنون } أي صاحبكم الذي من الله عليكم به إذ بعثه إليكم رسولا من جنسكم يصحبكم إذ كنتم لا تطيقون أن تروا الملائكة كما قال تعالى : { وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون } { ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا } الآية .
وقال تعالى : { ولقد رآه بالأفق المبين } أي رأى جبريل عليه السلام { وما هو على الغيب بضنين } أي بمتهم وفي القراءة الأخرى : { بضنين } أي ببخيل يكتم العلم ولا يبذله إلا بجعل كما يفعل من يكتم العلم إلا بالعوض .
{ وما هو بقول شيطان رجيم } فنزه جبريل عليه السلام عن أن يكون شيطانا كما نزه محمدا صلى الله عليه وسلم عن أن يكون شاعرا أو كاهنا .