لما ختمت تلك بإثبات القهر بنفوذ الأمر وإحاطة العلم، افتتح هذه بإحاطة الحمد ودوام التنزه عن كل شائبة نقص، إرشادا إلى النظر في أفعاله والتفكر في مصنوعاته لأنه الطريق إلى معرفته، وأما معرفته بكنه الحقيقة فمحال فإنه لا يعرف الشيء كذلك إلا مثله ولا مثل له، فقال مؤكدا لما أفهمه أول الجمعة: يسبح أي يوقع التنزيه التام مع التجديد والاستمرار لله الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال ما في السماوات الذي من جملته الأراضي وما فيها فلا يريد من شيء منه شيئا إلا كان على وفق الإرادة، فكان لذلك الكون والكائن [ ص: 100 ] شاهدا له بالبراءة عن كل شائبة نقص.
ولما كان الخطاب مع من تقدم في آخر المنافقين ممن هو محتاج إلى التأكيد، قال مؤكدا بإعادة الموصول: وما في الأرض أي كذلك بدلالتها على كماله واستغنائه، وقد تقدم أن موافقة العاقل للأمر مثل موافقة غير العاقل للإرادة، فعليه أن يهذب نفسه غاية التهذيب فيكون في طاعته بامتثال الأوامر كطاعة غير العاقل في امتثاله لما يراد منه.
ولما ساق سبحانه ذلك الدليل النقلي كمال نزاهته على وجه يفهم الدليل العقلي لمن له لب كما قال رضي الله عنه : لا ينفع مسموع إذا لم يكن مطبوعا، كما لا تنفع الشمس [و]ضوء العين ممنوع، وذلك لكونه سبحانه جعلهم مظروفين كما هو المشاهد، والمظروف محتاج لوجود ظرفه قبله فهو عاجز فهو مسبح دائما إن لم يكن بلسان قاله كان بلسان حاله، وصانعه الغني عن الظرف فغيره سبوح، [علل] ذلك بقوله: علي له أي وحده الملك [أي] كله مطلقا في الدنيا والآخرة، وهو السيادة العامة للخاص والعام والسياسة العامة بركنيها دفع الشرور وجلب الخيور الجالب للسرور [ ص: 101 ] والحبور من الإبداع والإعدام، فهو أبلغ مما في الجمعة، فإن الملك قد يكون ملكا في الصورة، وذلك الملك الذي هو ظاهر فيه لغيره، فداوم التسبيح الذي اقتضته عظمة الملك هنا أعظم من ذلك الدوام.
ولما أتبعه في الجمعة التنزيه عن النقص، أتبعه هنا الوصف بالكمال فقال: وله أي وحده الحمد أي فمن فهم تسبيحها فذلك [المحسن]، ومن كان في طبعه وفطرته الأولى بالفهم ثم ضيعه يوشك أن يرجع فيفهم، ومن لم يهيأ لذلك فذلك الضال الذي لا حيلة فيه الإحاطة بأوصاف الكمال كلها فلذلك ينزهه جميع مخلوقاته، وهو أي وحده على كل شيء أي شيء ممكن أن يتعلق به المشيئة قدير لأنه وحده بكل شيء مطلقا عليم، لأن نسبة ذاته المقتضية للقدرة إلى الأشياء كلها على حد سواء وهذا واضح جدا، ولأن من عرف نفسه بالنقص عرف ربه بالكمال وقوة السلطان والجلال.
وقال [الإمام] أبو جعفر بن الزبير رحمه الله تعالى: لما بسط في السورتين قبل من حال من حمل التوراة من بني إسرائيل ثم لم يحملها، وحال المنافقين المتظاهرين بالإسلام، وقلوبهم كفرا وعنادا متكاثفة الإظلام، وبين خروج الطائفتين عن سواء السبيل المستقيم، وتنكبهم عن هدى الدين القويم، وأوهم ذكر اتصافهم بمتحد أوصافهم خصوصهم في الكفر بوسم الانفراد وسما ينبئ عن عظيم ذلك الإبعاد، سوى ما [ ص: 102 ] تناول غيرهم من أحزاب الكفار، فأنبأ تعالى [عن] أن الخلق بجملتهم وإن تشعبت الفرق وافترقت الطرق راجعون بحكم السوابق إلى طريقين فقال تعالى هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن وقد أوضحنا الدلائل أن المؤمنين على درجات، و[أهل] الكفر ذو طبقات، وأهل النفاق أدونهم حالا وأسوأهم كفرا وضلالا إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار وافتتحت السورة بالتنزيه لعظيم مرتكب المنافقين في جهلهم ولو لم تنطو سورة المنافقين من عظيم مرتكبهم إلا على ما حكاه تعالى من قولهم لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وقد أشار قوله تعالى يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور إلى ما قبله وبعده من الآيات إلى سوء جهل المنافقين وعظيم حرمانهم في قولهم بألسنتهم مما لم تنطو عليه قلوبهم والله يشهد إن المنافقين لكاذبون واتخاذهم أيمانهم جنة وصدهم عن سبيل الله إلى ما وصفهم سبحانه به، فافتتح سبحانه وتعالى سورة التغابن بتنزيهه عما توهموه من مرتكباتهم التي لا تخفى عليه سبحانه ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم ثم قال تعالى ويعلم ما تسرون وما تعلنون فقرع ووبخ في عدة آيات ثم [ ص: 103 ] أشار إلى ما منعهم من تأمل الآيات، وصدهم عن اعتبار المعجزات، وأنه الكبر المهلك غيرهم، فقال تعالى مخبرا عن سلفهم في هذا المرتكب، ممن أعقبه ذلك أليم العذاب وسوء المنقلب ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا ثم تناسج الكلام معرفا بمآلهم الأخروي ومآل غيرهم إلى قوله وبئس المصير ومناسبة ما بعد يتبين في التفسير بحول الله - انتهى.