ولما أخبر عن سعة علمه دل عليه بسعة ملكه المستلزم لسعة قدرته ليدل ذلك على جميع الكمال لأنه قد ثبت كما قال الأصبهاني إن الصفات التي هي كمالات حقيقة ليست إلا القدرة والعلم المحيط فقال واعدا للمطيع متوعدا للعاصي مصرحا بأن أفعال العباد وغيرها مخلوق له:- وقال ولما كان أول السورة إظهار كتاب التقدير في الذكر الأول كان ختمها إبداء أثر ذلك الكتاب [الأول] في الأعمال والجزاء التي هي الغاية في ابتداء أمر التقدير فوقع الختم بأنه سلب الخلق [ما] في أيديهم مما أبدوه وما أخفوه من أهل السماوات والأرض; انتهى - فقال: الحرالي: لله أي الملك الأعظم. ولما [ ص: 164 ] كانت ما ترد لمن يغفل وكان أغلب الموجودات [والجمادات] عبر بها فقال: ما في السماوات أي كله على علوها واتساعها من ملك وغيره وما في الأرض مما تنفقونه وغيره من عاقل وغيره، يأمر فيهما ومنهما بما يشاء وينهى عما يشاء ويعطي من يشاء ويمنع من يشاء ويضاعف لمن يشاء.
ولما كان التقدير: فهو يعلم جميع ما فيهما من كتمانكم وغيره ويتصرف فيه بما يريد، عطف عليه محذرا أو يضمر سوءا غيرها أو يظهره قوله تعالى: من يكتم الشهادة وإن تبدوا أي تظهروا [ ص: 165 ] ما في أنفسكم من شهادة أو غيرها أو تخفوه مما وطنتموه في النفس وعزمتم عليه وليس هو من الخواطر التي كرهتموها ولم تعزموا عليها. قال من الإخفاء وهو تغييب الشيء وأن لا يجعل عليه علم يهتدى إليه من جهته الحرالي: يحاسبكم من المحاسبة مفاعلة من الحساب والحسب، وهو استيفاء الأعداد فيما للمرء وعليه من الأعمال الظاهرة والباطنة يعني ليجازي بها به الله أي بذكره لكم وأنتم تعلمون ما له من صفات الكمال. قال وفي ضمن هذا الخطاب لأولي الفهم إنباء بأن الله سبحانه وتعالى إذا عاجل العبد بالحساب بحكم ما يفهمه ترتيب الحساب على وقوع العمل حيث لم يكن فيحاسبكم مثلا فقد أعظم اللطف به، لأن الحرالي: حيث يكفر عنه بالشوكة يشاكها حتى بالقلم يسقط من يد الكاتب، فيكفر عن المؤمن بكل ما يلحقه في دنياه حتى يموت على طهارة من ذنوبه [وفراغ من حسابه] كالذي يتعاهد بدنه وثوبه بالتنظيف فلا يتسخ ولا يدرن ولا يزال [ ص: 166 ] نظيفا. انتهى وفيه تصرف. من حوسب بعمله عاجلا في الدنيا خف جزاؤه عليه
ولما كان حقيقة المحاسبة ذكر الشيء والجزاء عليه وكان المراد بها هنا العرض وهو الذكر فقط بدلالة التضمن دل عليه بقوله مقدما الترجئة معادلة لما أفهمه صدر الآية من التخويف: فيغفر لمن يشاء أي فلا يجازيه على ذلك كبيرة كان أو لا ويعذب من يشاء بتكفير أو جزاء.
ولما أخبر سبحانه وتعالى بهذا أنه مطلق التصرف ختم الكلام دلالة على ذلك بقوله مصرحا بما لزم تمام علمه من كمال قدرته: والله أي الذي لا أمر لأحد معه على كل شيء قدير أي ليس [هو] كملوك الدنيا يحال بينهم وبين بعض ما يريدون بالشفاعة وغيرها. قال فسلب بهذه الآية القدرة عن جميع الخلق. انتهى. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن هذه الآية خاصة بأمر الشهادة، وقال الأكثرون: هي عامة كما فهمها الصحابة رضوان الله سبحانه وتعالى عليهم في الوسوسة وحديث النفس المعزوم عليه وغيره ثم خففت بما بعدها، روى الحرالي: في صحيحه عن مسلم رضي الله [ ص: 167 ] تعالى عنه قال: أبي هريرة لله ما في السماوات الآية إلى قدير اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا: يا رسول الله! كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت [عليك] هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ].
فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها آمن الرسول بما أنـزل إليه إلى المصير فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى وأنزل لا يكلف الله نفسا إلا وسعها إلى [ أو أخطأنا قال: نعم" قال "لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : وفي رواية عن البغوي رضي الله عنهما: قد فعلت]، واستمر إلى آخر السورة كلما قرؤوا جملة قال: نعم. فقد تبين [ ص: 168 ] من هذا تناسب هذه الآيات، وأما مناسبتها لأول السورة ردا للمقطع على المطلع فهو أنه لما ابتدأ السورة بوصف المؤمنين بالكتاب الذي لا ريب فيه على الوجه الذي تقدم ختمها بذلك بعد تفصيل الإنفاق الذي وصفهم به أولها على وجه يتصل بما قبله من الأوامر والنواهي والاتصاف بأوصاف الكمال أشد اتصال، وجعل رأسهم الرسول عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام تعظيما للمدح وترغيبا في ذلك الوصف فأخبر بإيمانهم بما أنزل إليه بخصوصه وبجميع الكتب وجميع الرسل وبقولهم الدال على كمال الرغبة وغاية الضراعة والخضوع فقال استئنافا لجواب من كأنه قال: ما فعل من أنزلت عليه هذه الأوامر والنواهي وغيرها؟
ابن عباس