براءة أي: عظيمة، ثم وصفها بقوله: من أي: حاصلة واصلة من الله أي: المحيط بصفات الكمال، فهو العالم بمن يستحق الولاية ومن يستحق البراءة ورسوله أي: المتابع لأمره لعلمه به.
ولما كانوا قد توقفوا في الحديبية كلهم أو كثير منهم تارة في [ ص: 362 ] نفس العهد وتارة في التأخر عن الأمر بالحلق، ثم تابعوا في كل منهما، وكان الكفار بمحل البعد عن كل خير، أشار إلى ذلك بأداة الغاية، وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الله إشارة إلى أنه لا يخالفه أصلا، وأسندت المعاهدة إليهم إشارة إلى ذلك التوقف تحذيرا من أن يقع مثله، فقال مخبرا عن النبذ الموصوف: إلى الذين عاهدتم أي: أوقعتم العهد بينكم وبينهم من المشركين أي: وإن كانت معاهدتكم لهم إنما كانت بإذن من الله ورسوله، فكما فعلتم المعاهدة بإذنهما فافعلوا النقض تبعا لهما، ودل سياق الكلام وما حواه من بديع الانتظام أن العهد إنما هو لأجل المؤمنين، وأما الله ورسوله فغنيان عن ذلك، أما الله فبالغنى المطلق، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فبالذي اختاره للرسالة لأنه ما فعل ذلك به إلا وهو قادر على نصره بسبب وبغير سبب، وعلم أن ذلك فيمن نقض أو قارب من قوله بعد: إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا - الآية. قال : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البغوي تبوك كان المنافقون يرجفون الأراجيف، وجعل المشركون ينقضون عهودا كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر الله بنقض عهودهم؛ وذلك قوله تعالى: وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم انتهى. وذكر ذلك وغيره، ولعله أطلق هنا ولم يقيد ممن خيف [ ص: 363 ] نقضه ليكون ذلك أول السورة مؤذنا بأن الخيانة والهم بالنقض شأن أكثرهم ولا سيما مشركو قريش، وهم - لكون قريش رؤوس الناس والناس تبع لهم في الخير والشر - يستحقون أن يعبر عنهم بما يفهم الكل. ومبنى هذه السورة على ابن إسحاق الدال على إيمانهم البراءة من المشركين والموالاة للمؤمنين بالصلاة والزكاة والجهاد لمن أمر بالبراءة منه قل أو كثر قرب أو بعد في المنشط والمكره والعسر واليسر. طاعة الله
ولما كان ظاهر الحال وقت تكامل نزولها - وهو شوال أو ذو العقدة أو ذو الحجة سنة تسع بعد مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك - أن الحرب قد وضعت أوزارها وأطفئت نارهم ببسط الإسلام في الخاص والعام، وما بين اليمن والشام، وانتشار ألويته وأعلامه، وتأيد رئيسه وإمامه بقهر جيوش الكفار، وقصد الناس له بالاتباع من جميع الأمصار، أكد أمر الجهاد ومصادمة الأنداد في هذه السورة تأكيدا لم يؤكد في غيرها; ذكر في أواخر غزوة الواقدي تبوك كلاما ثم قال: قالو: وقدم رسول الله صلى لله عليه وسلم المدينة - يعني من غزوة تبوك - في رمضان سنة تسع، ثم قال: وجعل المسلمون يبيعون أسلحتهم ويقولون: قد انقطع الجهاد، فجعل القوي منهم يشتريها لفضل قوته، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك وقال: "لا تزال عصابة [ ص: 364 ] من أمتي يجاهدون على الحق حتى يخرج الدجال" وإنما قلت: إن تكامل نزولها كان في شوال أو في ذي القعدة أو في ذي الحجة لأن نقل عن البغوي أن أولها نزل في شوال، وقال الزهري - ونقله عنه ابن إسحاق في دلائل النبوة -: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد منصرفه من البيهقي تبوك بقية شهر رمضان وشوالا وذا القعدة ثم بعث رضي الله عنه أميرا على الحج في سنة تسع ليقيم للمؤمنين حجهم والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم - وأسند أبا بكر في دلائله إلى البيهقي قال: فلما أنشأ الناس الحج تمام سنة تسع بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عروة أميرا على الناس وكتب له سنن الحج - انتهى. أبا بكر
فخرج والمؤمنون رضي الله عنهم ونزلت براءة في نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينهم وبينه أن لا يصد عن البيت أحد جاءه ولا يخاف أحد في الشهر الحرام; وكان ذلك عهدا عاما بينه وبين الناس من أهل الشرك; ونقل أبو بكر عنه أنه قال: فكانت هذه المدة والعهد الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين العرب أنه لا يصد أحد عن البيت ولا يتعرض لحاج ولا معتمر، ولا يقاتل في الشهر الحرام; وكان أمانا مستفيضا من بعضهم لبعض على غير مدة معلومة; رجع إلى ما رأيته أنا في سيرته: وكانت بين ذلك عهود بين رسوله صلى الله عليه وسلم وبين [ ص: 365 ] قبائل من العرب خصائص إلى آجال مسماة فنزلت فيه وفيمن تخلف من المنافقين عنه في تبوك وفي قول من قال منهم، فكشف الله فيها سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون; ثم قال أبو محمد البستي : قال ابن هشام : وحدثني ابن إسحاق حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: رضي الله عنه ليقيم للناس الحج قيل له: يا رسول الله! لو بعثت بها إلى أبا بكر الصديق ! فقال: لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي، ثم دعا أبي بكر رضي الله عنه فقال له: اخرج بهذه القصة من صدر براءة فأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا علي بن أبي طالب بمنى أنه ولا يجح بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته". لا يدخل الجنة كافر، "لما نزلت براءة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان بعث
فهذا فيه أنها نزلت بعد سفر رضي الله عنه، وإنما قيدت أنا بتكامل نزولها لأنه ورد أن الذي في النقض فبعث به أبي بكر رضي الله عنه إنما هو عشر آيات أو سبع، وفي بعض الروايات التصريح بنزولها قبل سفر عليا رضي الله عنه، ففي زيادات مسند أبي بكر الإمام أحمد رضي الله عنه قال: "لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي صلى الله عليه وسلم دعا علي رضي الله عنه فبعثه بها ليقرأها على أهل أبا بكر مكة، ثم دعاني النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أدرك ، فحيث ما لحقته [ ص: 366 ] فخذ الكتاب منه فاذهب به إلى أهل أبا بكر مكة فاقرأه عليهم - فذكره، وفيه أن رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم بعدما رجع: أنزل في شيء؟ قال: لا. ولكن أبا بكر جبريل عليه السلام جاءني فقال: لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك" ونقل عن عن البغوي ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم بعث مع بأربعين آية من صدر سورة براءة ليقرأها على أهل الموسم، ثم بعث بعده أبي بكر على ناقته العضباء ليقرأ على الناس صدر براءة وأمره أن يؤذن عليا بمكة ومنى وعرفة. وفيه أن رضي الله عنه قال: يا رسول الله! أنزل في شأني شيء؟ قال: "لا، ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا الأمر إلا رجل من أهلي" أبا بكر فتبين أن الأول من إطلاق الكل على الجزء لا سيما وهو الذي فيه البراءة، وما سميت السورة براءة إلا به; وأن المعنى: لا يؤدي عني في العهود، لا مطلقا؛ فقد أرسل رسلا للأداء عنه من غير أهل بيته; وقال المهدوي في تفسير: فسيحوا في الأرض وروي أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بعد خروج بالناس ليحج بهم سنة تسع، فبعث بها النبي صلى الله صلى عليه وسلم أبي بكر رضي الله عنه ليتلوها على الناس بالموضع الذي يجتمع فيه الفريقان وهو عليا منى، وأمره أن ينادي: أن لا يحج بعد [ ص: 367 ] العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، فنادى علي وأعانه وغيره رضي الله عنهم، وكان على مكة حينئذ عتاب بن أسيد رضي الله عنه، استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح وهو عام ثمان، وكان حج عتاب أبو هريرة سنة تسع في ذي القعدة - كذا قال وسيأتي بيان بطلانه، وتقدم خلافه عن وأبي بكر في دلائل النبوة; وقال ابن إسحاق الإمام أبو محمد إسحاق بن إبراهيم البستي القاضي في تفسيره: حدثنا قتيبة عن عن الحجاج عن ابن جريج قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من مجاهد تبوك فأراد الحج فقال: إنه يحضر البيت المشركون يطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك، فأرسل أبا بكر رضي الله عنهما، فطافا في الناس بذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها كلها وبالموسم كله، وآذنوا أصحاب العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر - يعني أشهر الحرم المنسلخات المتواليات: عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر يخلون من ربيع الآخر، ثم لا عهد لهم، فآذن الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا، فآمن الناس أجمعون. وعليا
وفي سيرة : حدثنا ابن إسحاق يونس - يعني ابن بكير - عن أسباط بن نصر الهمداني عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي فسيحوا في الأرض أربعة أشهر [ ص: 368 ] قال: عشرين من ذي الحجة إلى عشر من ربيع الآخر ثم لا أمان لأحد ولا عهد إلا السيف أو الإسلام; وقال : حتى إذا كان يوم النحر قام ابن هشام رضي الله عنه فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم ليرجع كل قوم إلى مأمنهم; علي بن أبي طالب وللترمذي زيد بن أثيع قال: سألت رضي الله عنه: بأي شيء بعثت؟ قال: بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا، ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته ومن لا مدة له فأربعة أشهر. عليا ونقل عن ابن سيد الناس عن ابن عائذ أنه لما ضرب للمشركين هذا الأجل قالوا: بل الآن لا نبتغي تلك المدة، نبرأ منك ومن ابن عمك إلا بالضرب والطعن; فحج الناس عامهم ذلك، فلما رجعوا رغب الله المشركين فدخلوا في الإسلام طوعا وكرها. وصدق الله ورسوله فلم يحج بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان. وقد وردت نصوص وظواهر في كثير من سورة براءة أنه نزل قبل الرجوع عن تبوك أو قبل الاعتذار، فمن النصوص قوله تعالى: لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم [ ص: 369 ] وقوله: فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا - الآيات. يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم إلى أن قال: سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم وأما الظواهر فإن قال في سيرته فأنزل من القرآن في غزوة الواقدي تبوك، ثم ذكر أكثر سورة براءة. وقال هو وغيره من أصحاب السير: "وكان رهط من المنافقين يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك منهم وديعة بن ثابت - فذكر القصة التي فيها أن بعضهم قال ترهيبا للمؤمنين: أتحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم؟ والله لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال، وقال كل منهم شيئا إلى أن قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أدرك القوم؛ فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى، قلتم كذا وكذا - إلى أن قال: إن بعضهم قال: إنما كنا نخوض ونلعب! فأنزل الله فيه: لعمار بن ياسر ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب - إلى قوله: - بأنهم كانوا مجرمين ثم قال: وجاء الجلاس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف ما قال من ذلك شيئا، وكان قد قال: إن كان محمد صادقا فنحن شر من الحمير، فأنزل الله عز وجل فيه: يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر - إلى آخرها، فاعترف الجلاس حينئذ [ ص: 370 ] وتاب وحسنت توبته"، وذكر مسجد الضرار وأن أهله كانوا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو متجهز إلى تبوك أن يصلي لهم فيه فاعتذر إليهم بشغله بالسفر ووعدهم أن يصلي فيه إذا رجع، فلما نزل صلى الله عليه وسلم بذي أوان - قال : بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار - أتاه خبره وخبر أهله من السماء، فدعا اثنين من أصحابه فأمرهما به فأحرقاه، وتفرق أهله ونزل فيه من القرآن ما نزل ابن هشام والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا - إلى آخر القصة; قال : وكان الواقدي عاصم بن عدي يقول: كنا نتجهز إلى تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت عبد الله بن نبتل وثعلبة بن حاطب قائمين على المسجد الضرار - إلى أن قال: فوالله ما رجعنا من سفرنا حتى نزل القرآن بذمه وذم أهله. والذين اتخذوا مسجدا ضرارا - إلى آخرها، ومن ذلك تسميتها بالفاضحة، فلولا نزولها قبل معرفة أخبارهم لم تكن فاضحة، وهي في الظاهر للمعاهدين وفي الباطن مشيرة إلى أهل الردة وأن لا يقبل منهم إيمان ما لم يجمعوا بين الصلاة والزكاة كما فهم رضي الله عنه، وأقيمت على ذلك قرائن منها تكرير الجمع بين الصلاة والزكاة في سياق الإيمان تكريرا لم يكن في غيرها من السور، فهي من أعلام النبوة; [ ص: 371 ] وروى أبو بكر أبو محمد إسحاق بن إبراهيم القاضي البستي في تفسيره عن رضي الله عنهما قال: إن هذا الإسلام ثلاثون سهما: عشر منها في براءة، وعشر في الأحزاب، وعشر في المؤمنين وسأل سائل. ابن عباس