وإلى هنا كان علاج المسألة علاجا نفسيا وقائيا، ولكن ذلك الميل حقيقة واقعة لا بد من مواجهتها بحلول واقعية إيجابية، هذه الحلول الواقعة هي تيسير الزواج، والمعاونة عليه مع تصعيب السبل الأخرى للمباشرة الجنسية أو إغلاقها نهائيا:
وأنكحوا الأيامى منكم، والصالحين من عبادكم وإمائكم. إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله. والله واسع عليم. وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله. والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم - إن علمتم فيهم خيرا - وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء - إن أردن تحصنا - لتبتغوا عرض الحياة الدنيا. ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ..
إن الزواج هو الطريق الطبيعي لمواجهة الميول الجنسية الفطرية، وهو الغاية النظيفة لهذه الميول العميقة. [ ص: 2515 ] فيجب أن تزول العقبات من طريق الزواج لتجري الحياة على طبيعتها وبساطتها، والعقبة المالية هي العقبة الأولى في طريق بناء البيوت، وتحصين النفوس، والإسلام نظام متكامل، فهو لا يفرض العفة إلا وقد هيأ لها أسبابها، وجعلها ميسورة للأفراد الأسوياء، فلا يلجأ إلى الفاحشة حينئذ إلا الذي يعدل عن الطريق النظيف الميسور عامدا غير مضطر.
لذلك يأمر الله الجماعة المسلمة أن تعين من يقف المال في طريقهم إلى النكاح الحلال:
وأنكحوا الأيامى منكم، والصالحين من عبادكم وإمائكم. إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ..
والأيامى هم الذين لا أزواج لهم من الجنسين، والمقصود هنا الأحرار، وقد أفرد الرقيق بالذكر بعد ذلك: والصالحين من عبادكم وإمائكم .
وكلهم ينقصهم المال كما يفهم من قوله بعد ذلك: إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ..
وهذا أمر للجماعة بتزويجهم، والجمهور على أن الأمر هنا للندب، ودليلهم أنه قد وجد أيامى على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يزوجوا، ولو كان الأمر للوجوب لزوجهم، ونحن نرى أن الأمر للوجوب، لا بمعنى أن يجبر الإمام الأيامى على الزواج; ولكن بمعنى أنه يتعين إعانة الراغبين منهم في الزواج، وتمكينهم من الإحصان، بوصفه وسيلة من وسائل الوقاية العملية، وتطهير المجتمع الإسلامي من الفاحشة، وهو واجب، ووسيلة الواجب واجبة.
وينبغي أن نضع في حسابنا - مع هذا - أن الإسلام، بوصفه نظاما متكاملا، يعالج الأوضاع الاقتصادية؛ علاجا أساسيا; فيجعل الأفراد الأسوياء قادرين على الكسب، وتحصيل الرزق، وعدم الحاجة إلى مساعدة بيت المال، ولكنه في الأحوال الاستثنائية يلزم بيت المال ببعض الإعانات. فالأصل في النظام الاقتصادي الإسلامي أن يستغني كل فرد بدخله، وهو يجعل تيسير العمل وكفاية الأجر حقا على الدولة واجبا للأفراد، أما الإعانة من بيت المال فهي حالة استثنائية لا يقوم عليها النظام الاقتصادي في الإسلام.
فإذا وجد في المجتمع الإسلامي - بعد ذلك - أيامى فقراء وفقيرات، تعجز مواردهم الخاصة عن الزواج، فعلى الجماعة أن تزوجهم، وكذلك العبيد والإماء، غير أن هؤلاء يلتزم أولياؤهم بأمرهم ما داموا قادرين.
ولا يجوز أن يقوم الفقر عائقا عن التزويج - متى كانوا صالحين للزواج راغبين فيه رجالا ونساء - فالرزق بيد الله، وقد تكفل الله بإغنائهم، إن هم اختاروا طريق العفة النظيف: إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف".
وفي انتظار قيام الجماعة بتزويج الأيامى يأمرهم بالاستعفاف حتى يغنيهم الله بالزواج: وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله .. والله واسع عليم .. لا يضيق على من يبتغي العفة، وهو يعلم نيته وصلاحه.
وهكذا يواجه الإسلام المشكلة مواجهة عملية; فيهيئ لكل فرد صالح للزواج أن يتزوج; ولو كان عاجزا من ناحية المال، والمال هو العقبة الكؤود غالبا في طريق الإحصان.
ولما كان وجود الرقيق في الجماعة من شأنه أن يساعد على هبوط المستوى الخلقي، وأن يعين على الترخص [ ص: 2516 ] والإباحية بحكم ضعف حساسية الرقيق بالكرامة الإنسانية، وكان وجود الرقيق ضرورة إذ ذاك لمقابلة أعداء الإسلام بمثل ما يعاملون به أسرى المسلمين، لما كان الأمر كذلك عمل الإسلام على التخلص من الأرقاء كلما واتت الفرصة، حتى تتهيأ الأحوال العالمية لإلغاء نظام الرق كله، فأوجب إجابة الرقيق إلى طلب المكاتبة على حريته، وذلك في مقابل مبلغ من المال يؤديه فينال حريته:
والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم. إن علمتم فيهم خيرا ..
وآراء الفقهاء مختلفة في هذا الوجوب، ونحن نراه الأولى; فهو يتمشى مع خط الإسلام الرئيسي في الحرية وفي كرامة الإنسانية، ومنذ المكاتبة يصبح مال الرقيق له، وأجر عمله له، ليوفي منه ما كاتب عليه; ويجب له نصيب في الزكاة: وآتوهم من مال الله الذي آتاكم . ذلك على شرط أن يعلم المولى في الرقيق خيرا، والخير هو الإسلام أولا، ثم هو القدرة على الكسب، فلا يتركه كلا على الناس بعد تحرره، وقد يلجأ إلى أحط الوسائل ليعيش، ويكسب ما يقيم أوده، والإسلام نظام تكافل، وهو كذلك نظام واقع، فليس المهم أن يقال: إن الرقيق قد تحرر، وليست العنوانات هي التي تهمه، إنما تهمه الحقيقة الواقعة.ولن يتحرر الرقيق حقا إلا إذا قدر على الكسب بعد عتقه; فلم يكن كلا على الناس; ولم يلجأ إلى وسيلة قذرة يعيش منها، ويبيع فيها ما هو أثمن من الحرية الشكلية وأغلى، وهو أعتقه لتنظيف المجتمع لا لتلويثه من جديد; بما هو أشد وأنكى .
وأخطر من وجود الرقيق في الجماعة، احتراف بعض الرقيق للبغاء، وكان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني; وجعل عليها ضريبة يأخذها منها - وهذا هو البغاء في صورته التي ما تزال معروفة حتى اليوم - فلما أراد الإسلام تطهير البيئة الإسلامية حرم الزنا بصفة عامة; وخص هذه الحالة بنص خاص:
ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء. إن أردن تحصنا. لتبتغوا عرض الحياة الدنيا. ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم .
فنهى الذين يكرهون فتياتهم على هذا المنكر، ووبخهم على ابتغاء عرض الحياة الدنيا من هذا الوجه الخبيث، ووعد المكرهات بالمغفرة والرحمة، بعد الإكراه الذي لا يد لهن فيه.
قال : "أنزلت هذه الآية الكريمة في السدي عبد الله بن أبي بن سلول ، رأس المنافقين، وكانت له جارية تدعى معاذة ، وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها، إرادة الثواب منه، والكرامة له، فأقبلت الجارية إلى - رضي الله عنه - فشكت إليه ذلك; فذكره أبي بكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره بقبضها، فصاح أبو بكر عبد الله بن أبي : من يعذرنا من محمد ؟ يغلبنا على مملوكتنا! فأنزل الله فيهم.
هذا النهي عن إكراه الفتيات على البغاء - وهن يردن العفة - ابتغاء المال الرخيص كان جزءا من خطة القرآن في تطهير البيئة الإسلامية؛ وإغلاق السبل القذرة للتصريف الجنسي، ذلك أن وجود البغاء يغري الكثيرين لسهولته ولو لم يجدوه لانصرفوا إلى طلب هذه المتعة في محلها الكريم النظيف.
ولا عبرة بما يقال من أن البغاء صمام أمن، يحمي البيوت الشريفة; لأنه لا سبيل لمواجهة الحاجة الفطرية إلا بهذا العلاج القذر عند تعذر الزواج، أو تهجم الذئاب المسعورة على الأعراض المصونة، إن لم تجد هذا الكلأ المباح!
[ ص: 2517 ] إن في التفكير على هذا النحو قلبا للأسباب والنتائج، فالميل الجنسي يجب أن يظل نظيفا بريئا موجها إلى إمداد الحياة بالأجيال الجديدة، وعلى الجماعات أن تصلح نظمها الاقتصادية بحيث يكون كل فرد فيها في مستوى يسمح له بالحياة المعقولة وبالزواج، فإن وجدت بعد ذلك حالات شاذة عولجت هذه الحالات علاجا خاصا، وبذلك لا تحتاج إلى البغاء، وإلى إقامة مقاذر إنسانية، يمر بها كل من يريد أن يتخفف من أعباء الجنس، فيلقي فيها بالفضلات، تحت سمع الجماعة وبصرها!.
إن النظم الاقتصادية هي التي يجب أن تعالج، بحيث لا تخرج مثل هذا النتن، ولا يكون فسادها حجة على ضرورة وجود المقاذر العامة، في صور آدمية ذليلة.
وهذا ما يصنعه الإسلام بنظامه المتكامل النظيف العفيف، الذي يصل الأرض بالسماء، ويرفع البشرية إلى الأفق المشرق الوضيء المستمد من نور الله.
ويعقب على هذا الشوط بصفة القرآن التي تناسب موضوعه وجوه:
ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات، ومثلا من الذين خلوا من قبلكم، وموعظة للمتقين ..
فهو آيات مبينات، لا تدع مجالا للغموض والتأويل، والانحراف عن النهج القويم.
وهو عرض لمصائر الغابرين الذين انحرفوا عن نهج الله فكان مصيرهم النكال.
وهو موعظة للمتقين الذين تستشعر قلوبهم رقابة الله فتخشى وتستقيم.
والأحكام التي تضمنها هذا الشوط تتناسق مع هذا التعقيب، الذي يربط القلوب بالله، الذي نزل هذا القرآن..